للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

قَبُولُ الْهِبَةِ نَوْعَانِ: - يُفْهَمُ مِنْ هَذَا أَنَّ قَبُولَ الْهِبَةِ عَلَى مَا ذُكِرَ فِي الْمَادَّةِ (٨٣٩) كَمَا يَكُونُ بِالْقَبُولِ أَحْيَانًا يَكُونُ أُخْرَى بِالْفِعْلِ. وَالْقَبُولُ بِالْفِعْلِ أَقْوَى مِنْ الْقَبُولِ بِالْقَوْلِ وَوَجْهُ ذَلِكَ أَنَّ الْهِبَةَ تَنْعَقِدُ بِالْقَبُولِ الْقَوْلِيِّ إلَّا أَنَّهَا لَا تَكُونُ تَامَّةً أَمَّا فِي الْقَبُولِ الْفِعْلِيِّ فَتَنْعَقِدُ بِهِ وَتَكُونُ تَامَّةً مَعًا.

مِثَالٌ آخَرُ: لَوْ قَالَ أَحَدٌ لِجَمَاعَةٍ: قَدْ وَهَبْت هَذَا الْمَالَ لِأَحَدِكُمْ فَمَنْ أَرَادَهُ مِنْكُمْ فَلْيَأْخُذْهُ، فَأَخَذَهُ أَحَدُهُمْ كَانَ مَالِكًا لَهُ وَقَبْضُ الْمَوْهُوبِ لَهُ هَذَا قَبُولٌ فِعْلِيٌّ عَلَى وَجْهِ هَذِهِ الْمَادَّةِ.

هَلْ قَوْلُ الْمَجَلَّةِ فِي مِثَالِهَا هَذَا (إذَا قَبَضَهُ فِي مَجْلِسِ الْهِبَةِ) تَعْبِيرٌ احْتِرَازِيٌّ أَمْ لَا؟ وَلْنُبَادِرْ إلَى تَفْصِيلِ ذَلِكَ وَبَيَانِ الِاخْتِلَافِ فِي ذَلِكَ الشَّأْنِ. لِلْهِبَةِ بَعْدَ إيجَابِ الْوَهَّابِ ثَلَاثُ احْتِمَالَاتٍ فِي قَبْضِ الْمَوْهُوبِ لَهُ:

الِاحْتِمَالُ الْأَوَّلُ: إعْطَاءُ إذْنِ الْوَاهِبِ صَرَاحَةً بِقَبْضِ الْمَوْهُوبِ. وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ يُوجَدُ صُورَتَانِ: الصُّورَةُ الْأُولَى أَنْ يَقْبَلَ الْمَوْهُوبُ لَهُ إيجَابَ الْوَاهِبِ قَوْلًا فِي مَجْلِسِ الْإِيجَابِ وَلِلْمَوْهُوبِ لَهُ فِي هَذِهِ الْحَالِ قَبْضُ الْمَوْهُوبِ فِي مَجْلِسٍ آخَرَ كَمَا هُوَ مَذْكُورٌ فِي الْمَادَّةِ (٨٤٤) .

الصُّورَةُ الثَّانِيَةُ أَنْ لَا يَقْبَلَ الْمَوْهُوبُ لَهُ إيجَابَ الْوَاهِبِ فِي مَجْلِسِ الْإِيجَابِ وَيَسْكُتَ.

وَفِي هَذِهِ الصُّورَةِ مَثَلًا إذَا قَالَ الْوَاهِبُ: وَهَبْتُك مَالِي هَذَا فَخُذْهُ، وَقَبَضَهُ الْمَوْهُوبُ لَهُ بِدُونِ أَنْ يَقُولَ: قَبِلْت قَوْلًا فِي ذَلِكَ الْمَجْلِسِ فَلَا شُبْهَةَ فِي تَمَامِ الْهِبَةِ. إلَّا أَنَّهُ إذَا لَمْ يَقُلْ الْمَوْهُوبُ لَهُ فِي ذَلِكَ الْمَجْلِسِ كَلَامًا يَدُلُّ عَلَى الْقَبُولِ كَمَا أَنَّهُ لَمْ يَقْبِضْ الْهِبَةَ فَهَلْ لِلْمَوْهُوبِ لَهُ أَنْ يَقْبِضَهَا فِي مَجْلِسٍ آخَرَ؟ فَقَدْ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي ذَلِكَ فَقَالَ بَعْضُهُمْ بِصِحَّةِ الْقَبْضِ؛ لِأَنَّ الْوَاهِبَ قَدْ أَذِنَ صَرَاحَةً بِالْقَبْضِ فَيَجُوزُ الْقَبْضُ فِي مَجْلِسٍ آخَرَ كَمَا هُوَ مُصَرَّحٌ فِي الْمَادَّةِ (٨٤٤) وَتَتِمُّ الْهِبَةُ بِذَلِكَ وَقَدْ رَجَّحَ هَذَا الْقَوْلَ قَاضِي خَانْ الَّذِي هُوَ مِنْ أَعْظَمِ أَرْبَابِ التَّرْجِيحِ (الْفَتَاوَى الْقَاعِدِيَّةُ وَالنِّهَايَةُ وَعَبْدُ الْحَلِيمِ وَأَبُو السُّعُودِ الْمِصْرِيُّ) فَسَبَبُ قَوْلِ الْمَجَلَّةِ فِي مَجْلِسِ الْهِبَةِ هُوَ أَنَّهُ حَيْثُ لَمْ يُذْكَرْ فِي مِثَالِ الْمَجَلَّةِ الْإِذْنُ بِالْقَبْضِ صَرَاحَةً فَأَصْبَحَ حَسَبَ الْفِقْرَةِ الثَّانِيَةِ مِنْ الْمَادَّةِ (٨٤٤) قَبْضُ الْهِبَةِ فِي مَجْلِسِ الْهِبَةِ شَرْطًا وَمَعَ أَنَّهُ اُشْتُرِطَ اتِّحَادُ الْمَجْلِسِ فِي الْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ فِي الْبَيْعِ (اُنْظُرْ الْفَصْلَ الثَّانِيَ مِنْ الْبَابِ الْأَوَّلِ) فَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ لَمْ يُشْتَرَطْ ذَلِكَ فِي الْهِبَةِ فَإِنَّهُ تَمْلِيكٌ يَحْتَاجُ إلَى الْقَبُولِ فِي الْمَجْلِسِ (الْهِنْدِيَّةُ فِي الْبَابِ الْحَادِيَ عَشَرَ) .

وَجَاءَ فِي فَتْحِ الْقَدِيرِ جَوَابًا عَلَى هَذَا. إنَّ رُكْنَ الْهِبَةِ عِبَارَةٌ عَنْ إيجَابِ الْوَاهِبِ فَقَطْ أَمَّا الْقَبُولُ فَلَيْسَ مَعْدُودًا مِنْ الرُّكْنِ اسْتِحْسَانًا وَإِنْ كَانَ مَعْدُودًا مِنْهُ قِيَاسًا انْتَهَى. وَعَلَيْهِ فَقَدْ وُجِدَ هَذَا الْقَوْلُ مَبْنِيًّا عَلَى الِاسْتِحْسَانِ. لَكِنَّ الْمَجَلَّةَ قَدْ اخْتَارَتْ الْقَوْلَ الْقَائِلَ بِأَنَّ الْقَبُولَ رُكْنٌ لِلْهِبَةِ أَيْضًا كَمَا هُوَ مُوَضَّحٌ فِي شَرْحِ الْمَادَّةِ (٨٣٧) فَكَانَ هَذَا الْجَوَابُ غَيْرَ مَقْبُولٍ عَلَى رَأْيِ الْمَجَلَّةِ وَعِنْدَ الْبَعْضِ الْآخَرِ بِمَا أَنَّ الْقَبْضَ الْمَذْكُورَ قَائِمٌ مَقَامَ قَبُولِ الْهِبَةِ فَيُعْتَبَرُ فِيهِ مَجْلِسُ الْعَقْدِ الْمَذْكُورِ فِي الْمَادَّةِ (١٨٢) يَعْنِي بِمَا أَنَّ الْقَبُولَ مُقَيَّدٌ بِمَجْلِسِ الْعَقْدِ فَلَا تَنْعَقِدُ الْهِبَةُ بِالْقَبْضِ فِي مَجْلِسٍ آخَرَ وَهَذَا الْقَوْلُ لِلْقِيَاسِ؛ لِأَنَّ رُكْنَ الْهِبَةِ لِمُقْتَضَى الْقِيَاسِ هُوَ عِبَارَةٌ عَنْ الْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ مَعًا وَالْإِيجَابُ فَقَطْ لَيْسَ بِرُكْنٍ وَالْحَالُ أَنَّهُ يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ الْإِيجَابُ وَالْقَبُولُ فِي مَجْلِسٍ

<<  <  ج: ص:  >  >>