للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

كَانَ اللَّعْنُ مِنْ طَرَفِ اللَّهِ فَيُقْصَدُ بِهِ الْقَطْعُ فِي الدُّنْيَا مِنْ الْخَيْرِ وَالتَّوْفِيقِ، وَالْإِبْعَادُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ اللُّطْفِ وَالرَّحْمَةِ (شَرْحُ الْآمَالِ) فَإِذَنْ يَكُونُ مَعْنَى الْحَدِيثِ الشَّرِيفِ الْمَذْكُورِ أَنَّ اللَّهَ - عَزَّ وَجَلَّ - قَدْ قَطَعَ الرَّاشِيَ وَالْمُرْتَشِيَ مِنْ الْخَيْرِ وَالتَّوْفِيقِ فِي الدُّنْيَا، وَأَبْعَدَهُ مِنْ اللُّطْفِ وَالْإِحْسَانِ فِي الْآخِرَةِ، وَلِذَلِكَ فَأَخْذُ الرِّشْوَةِ، وَإِعْطَاؤُهَا مُحَرَّمٌ اُنْظُرْ الْمَادَّةَ (٣٤) . فَالْجُرْأَةُ عَلَى هَذِهِ الْأَفْعَالِ الْبَاطِلَةِ وَالْبَاعِثَةِ لِلَّعْنَةِ شَرْعًا نَاشِئَةٌ عَنْ ظُلْمَةِ الْقَلْبِ؛ لِأَنَّ صَاحِبَ الْقَلْبِ الْمُسْتَنِيرِ يَسْتَنِيرُ بِهَدْيِ الْهِدَايَةِ فَيَنْظُرُ فِي عَوَاقِبِ الْأُمُورِ، وَمَنَعَ نَفْسَهُ فَيَقُولُ فِي نَفْسِهِ: إنَّ الدُّنْيَا ظِلٌّ زَائِلٌ وَخَيَالٌ بَاطِلٌ (الْعَيْنِيُّ شَرْحُ الْبُخَارِيِّ) .

إذْ إنَّ الدُّنْيَا غَيْرُ بَاقِيَةٍ لِأَحَدٍ وَمَالَ الدُّنْيَا لَا يَبْقَى لِأَحَدٍ {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ} [الزلزلة: ٧] {وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ} [الزلزلة: ٨] . وَقَدْ خَطَبَ الرَّسُولُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ فَقَالَ: «إنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ، وَأَعْرَاضَكُمْ عَلَيْكُمْ حَرَامٌ كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا فِي بَلَدِكُمْ هَذَا فِي شَهْرِكُمْ هَذَا وَسَتَلْقَوْنَ رَبَّكُمْ فَيَسْأَلَكُمْ عَنْ أَعْمَالِكُمْ الْحَدِيثَ. ثُمَّ قَالَ أَلَا هَلْ بَلَّغْت مَرَّتَيْنِ» (الْبُخَارِيُّ) لَوْ كَانَ عَلَى الْعَبْدِ دَانَقٌ وَلَهُ عَمَلُ سَبْعِينَ نَبِيًّا مَا دَخَلَ الْجَنَّةَ حَتَّى يُؤَدِّيَ ذَلِكَ الدَّانَقَ، وَيُعْطَى لِصَاحِبِ الدَّانَقِ فِي دَانَقِهِ سَبْعُمِائَةِ صَلَاةٍ مَقْبُولَةٍ فَلَا يُرْضِيهِ بِذَلِكَ (تَذْكِرَةُ الْقُرْطُبِيِّ) . وَعِنْدَمَا مَرِضَ النَّبِيُّ ٢٠٤، وَأَصْبَحَ غَيْرَ قَادِرٍ اتَّكَأَ عَلَى أَوْلَادِ عَمِّهِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ وَالْفَضْلِ بْنِ الْعَبَّاسِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَصَعِدَ إلَى الْمِنْبَرِ وَخَطَبَ قَائِلًا: أَيُّهَا النَّاسُ «مَنْ كَانَ لَهُ عَلَيَّ دَيْنٌ؟ ؟» . فَطَلَبَ مِنْهُ أَحَدُ النَّاسِ ثَلَاثَةَ دَرَاهِمَ فَأَدَّاهَا النَّبِيُّ لَهُ.

إذَا حَكَمَ الْقَاضِي بِالرِّشْوَةِ سَوَاءٌ أَكَانَ حُكْمُهُ قَبْلَ أَخْذِهِ الرِّشْوَةَ أَوْ بَعْدَ أَخْذِ الرِّشْوَةِ فَفِي ذَلِكَ اخْتِلَافٌ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ. ١ - فَعَلَى قَوْلٍ إنَّ حُكْمَ الْقَاضِي صَحِيحٌ إذَا كَانَ مُوَافِقًا لِلْمَسْأَلَةِ الشَّرْعِيَّةِ سَوَاءٌ فِي الدَّعْوَى الَّتِي ارْتَشَى فِيهَا أَوْ الَّتِي لَمْ يَرْتَشِ فِيهَا وَبِأَخْذِ الرِّشْوَةِ لَا يَبْطُلُ الْحُكْمُ لِأَنَّ حَاصِلَ أَخْذِ الرِّشْوَةِ هُوَ فِسْقُ الْقَاضِي وَبِمَا أَنَّ فِسْقَ الْقَاضِي لَا يُوجِبُ انْعِزَالَهُ فَوِلَايَةُ الْقَاضِي بَاقِيَةٌ، وَإِذَا كَانَ قَضَاؤُهُ بِحَقٍّ يَلْزَمُ نَفَاذُ قَضَائِهِ ٢ - وَعَلَى قَوْلٍ آخَرَ لَا يَنْفُذُ حُكْمُ الْقَاضِي فِي الدَّعْوَى الَّتِي ارْتَشَى فِيهَا حَتَّى لَقَدْ وَرَدَ فِي الْخَانِيَّةِ: بِأَنَّ الْقَاضِيَ لَوْ أَخَذَ رِشْوَةً وَحَكَمَ فَحُكْمُهُ غَيْرُ نَافِذٍ بِالْإِجْمَاعِ وَلَوْ كَانَ حُكْمُهُ بِحَقٍّ لِأَنَّ الْقَاضِيَ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ يَكُونُ قَدْ اُسْتُؤْجِرَ لِلْحُكْمِ وَالِاسْتِئْجَارُ لِلْحُكْمِ بَاطِلٌ لِأَنَّ الْقَضَاءَ وَاجِبٌ عَلَى الْقَاضِي فِي " الْوَلْوَالِجِيَّةِ آدَابِ الْقَاضِي ".

<<  <  ج: ص:  >  >>