للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

فَرَكِبَ عَبْدُ الْمُطَّلِبِ وَمَعَهُ نَفَرٌ مِنْ بَنِي عَبْدِ مَنَافٍ، وَرَكِبَ مِنْ كُلِّ قَبِيلَةٍ مِنْ قُرَيْشٍ نَفَرٌ، حَتَّى إِذَا كَانُوا بِبَعْضِ تِلْكَ الْمَفَاوِزِ بَيْنَ الْحِجَازِ وَالشَّامِ فِي مَاءِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ وَأَصْحَابِهِ، فَظَمِئُوا حَتَّى أَيْقَنُوا بِالْهَلَكَةِ، فَطَلَبُوا الْمَاءَ مِمَّنْ مَعَهُمْ مِنْ قُرَيْشٍ فَلَمْ يَسْقُوهُمْ. فَقَالَ لِأَصْحَابِهِ: مَاذَا تَرَوْنَ؟ فَقَالُوا: رَأَيُنَا تَبَعٌ لِرَأْيِكَ فَمُرْنَا بِمَا شِئْتَ. قَالَ: فَإِنِّي أَرَى أَنْ يَحْفِرَ كُلُّ رَجُلٍ مِنْكُمْ لِنَفْسِهِ حُفْرَةً، فَكُلَّمَا مَاتَ وَاحِدٌ وَارَاهُ أَصْحَابُهُ حَتَّى يَكُونَ آخِرُكُمْ مَوْتًا وَقَدْ وَارَى الْجَمِيعَ، فَضَيْعَةُ رَجُلٍ وَاحِدٍ أَيْسَرُ مِنْ ضَيْعَةِ رَكْبٍ. قَالُوا: نِعْمَ مَا رَأَيْتَ. فَفَعَلُوا مَا أَمَرَهُمْ بِهِ.

ثُمَّ إِنَّ عَبْدَ الْمُطَّلِبِ قَالَ لِأَصْحَابِهِ: وَاللَّهِ إِنَّ إِلْقَاءَنَا بِأَيْدِينَا هَكَذَا لِلْمَوْتِ، لَا نَضْرِبُ فِي الْأَرْضِ وَنَبْتَغِي لِأَنْفُسِنَا لَعَجْزٌ. فَارْتَحَلُوا وَمَنْ مَعَهُ مِنْ قَبَائِلِ قُرَيْشٍ يَنْظُرُونَ إِلَيْهِمْ، ثُمَّ رَكِبَ عَبْدُ الْمُطَّلِبِ، فَلَمَّا انْبَعَثَتْ بِهِ رَاحِلَتُهُ انْفَجَرَتْ مِنْ تَحْتِ خُفِّهَا عَيْنٌ عَذْبَةٌ مِنْ مَاءٍ، فَكَبَّرَ وَكَبَّرَ أَصْحَابُهُ وَشَرِبُوا وَمَلَأُوا أَسْقِيَتَهُمْ، ثُمَّ دَعَا الْقَبَائِلَ مِنْ قُرَيْشٍ فَقَالَ: هَلُمُّوا إِلَى الْمَاءِ فَقَدْ سَقَانَا اللَّهُ. فَقَالَ أَصْحَابُهُ: لَا نَسْقِيهِمْ لِأَنَّهُمْ لَمْ يَسْقُونَا. فَلَمْ يَسْمَعْ مِنْهُمْ وَقَالَ: فَنَحْنُ إِذًا مِثْلُهُمْ! فَجَاءَ أُولَئِكَ الْقُرَشِيُّونَ وَمَلَأُوا أَسْقِيَتَهُمْ وَقَالُوا: قَدْ وَاللَّهِ قَضَى اللَّهُ لَكَ عَلَيْنَا يَا عَبْدَ الْمُطَّلِبِ، وَاللَّهِ لَا نُخَاصِمُكَ فِي زَمْزَمَ أَبَدًا، إِنَّ الَّذِي سَقَاكَ هَذَا الْمَاءَ بِهَذِهِ الْفَلَاةِ لَهُوَ الَّذِي سَقَاكَ زَمْزَمَ، فَارْجِعْ إِلَى سِقَايَتِكَ رَاشِدًا.

فَرَجَعُوا إِلَيْهِ وَلَمْ يَصِلُوا إِلَى الْكَاهِنَةِ وَخَلَّوْا بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا.

فَلَمَّا فَرَغَ مِنْ حَفْرِهَا وَجَدَ الْغَزَالَيْنِ اللَّذَيْنِ دَفَنَتْهُمَا جُرْهُمُ فِيهَا، وَهُمَا مِنْ ذَهَبٍ، وَوَجَدَ فِيهَا أَسْيَافًا قَلْعِيَّةً وَأَدْرَاعًا. فَقَالَتْ لَهُ قُرَيْشٌ: يَا عَبْدَ الْمُطَّلِبِ لَنَا مَعَكَ فِي هَذَا شِرْكٌ وَحَقٌّ. قَالَ: لَا وَلَكِنْ هَلُمَّ إِلَى أَمْرٍ نَصَفٍ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ، نَضْرِبُ عَلَيْهَا بِالْقِدَاحِ. فَقَالُوا: فَكَيْفَ تَصْنَعُ؟ قَالَ: أَجْعَلُ لِلْكَعْبَةِ قِدْحَيْنِ، وَلَكُمْ قِدْحَيْنِ، وَلِي قِدْحَيْنِ، فَمَنْ خَرَجَ قِدَاحُهُ عَلَى شَيْءٍ أَخَذَهُ، وَمَنْ تَخَلَّفَ قِدَاحُهُ فَلَا شَيْءَ لَهُ. قَالُوا: أَنْصَفْتَ. فَفَعَلُوا ذَلِكَ وَضُرِبَتِ الْقِدَاحُ عِنْدَ هُبَلَ، فَخَرَجَ قِدْحَا الْكَعْبَةِ عَلَى الْغَزَالَيْنِ، وَخَرَجَ قِدْحَا عَبْدِ الْمُطَّلِبِ عَلَى الْأَسْيَافِ وَالْأَدْرَاعِ، وَلَمْ يَخْرُجْ لِقُرَيْشٍ شَيْءٌ مِنَ الْقِدَاحِ. فَضَرَبَ عَبْدُ الْمُطَّلِبِ الْأَسْيَافَ بَابًا لِلْكَعْبَةِ، وَجَعَلَ فِيهِ الْغَزَالَيْنِ صَفَائِحَ مِنْ ذَهَبٍ، فَكَانَ أَوَّلُ ذَهَبٍ حُلِّيَتْ بِهِ الْكَعْبَةُ.

<<  <  ج: ص:  >  >>