للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

إِذِ الشَّرَابُ يُسْرِعُ إِلَيْهِ الْإِسْكَارُ فِيهَا.

وَقِيلَ: بَلِ النَّهْيُ عَنْهَا لِصَلَابَتِهَا، وَأَنَّ الشَّرَابَ يُسْكِرُ فِيهَا، وَلَا يُعْلَمُ بِهِ بِخِلَافِ الظُّرُوفِ غَيْرِ الْمُزَفَّتَةِ، فَإِنَّ الشَّرَابَ مَتَى غَلَا فِيهَا وَأَسْكَرَ انْشَقَّتْ، فَيُعْلَمُ بِأَنَّهُ مُسْكِرٌ، فَعَلَى هَذِهِ الْعِلَّةِ يَكُونُ الِانْتِبَاذُ فِي الْحِجَارَةِ وَالصُّفْرِ أَوْلَى بِالتَّحْرِيمِ، وَعَلَى الْأَوَّلِ لَا يَحْرُمُ، إِذْ لَا يُسْرِعُ الْإِسْكَارُ إِلَيْهِ فِيهَا كَإِسْرَاعِهِ فِي الْأَرْبَعَةِ الْمَذْكُورَةِ، وَعَلَى كِلَا الْعِلَّتَيْنِ، فَهُوَ مِنْ بَابِ سَدِّ الذَّرِيعَةِ، كَالنَّهْيِ أَوَّلًا عَنْ زِيَارَةِ الْقُبُورِ سَدًّا لِذَرِيعَةِ الشِّرْكِ، فَلَمَّا اسْتَقَرَّ التَّوْحِيدُ فِي نُفُوسِهِمْ، وَقَوِيَ عِنْدَهُمْ أَذِنَ فِي زِيَارَتِهَا، غَيْرَ أَنْ لَا يَقُولُوا هُجْرًا.

وَهَكَذَا قَدْ يُقَالُ فِي الِانْتِبَاذِ فِي هَذِهِ الْأَوْعِيَةِ إِنَّهُ فَطَمَهُمْ عَنِ الْمُسْكِرِ وَأَوْعِيَتِهِ، وَسَدَّ الذَّرِيعَةَ إِلَيْهِ إِذْ كَانُوا حَدِيثِي عَهْدٍ بِشُرْبِهِ، فَلَمَّا اسْتَقَرَّ تَحْرِيمُهُ عِنْدَهُمْ، وَاطْمَأَنَّتْ إِلَيْهِ نُفُوسُهُمْ، أَبَاحَ لَهُمُ الْأَوْعِيَةَ كُلَّهَا غَيْرَ أَنْ لَا يَشْرَبُوا مُسْكِرًا، فَهَذَا فِقْهُ الْمَسْأَلَةِ وَسِرُّهَا.

وَفِيهَا: مَدْحُ صِفَتَيِ الْحِلْمِ وَالْأَنَاةِ، وَأَنَّ اللَّهَ يُحِبُّهُمَا، وَضِدُّهُمَا الطَّيْشُ وَالْعَجَلَةُ، وَهُمَا خُلُقَانِ مَذْمُومَانِ مُفْسِدَانِ لِلْأَخْلَاقِ وَالْأَعْمَالِ.

وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ اللَّهَ يُحِبُّ مِنْ عَبْدِهِ مَا جَبَلَهُ عَلَيْهِ مِنْ خِصَالِ الْخَيْرِ، كَالذَّكَاءِ وَالشَّجَاعَةِ وَالْحِلْمِ.

وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْخُلُقَ قَدْ يَحْصُلُ بِالتَّخَلُّقِ وَالتَّكَلُّفِ؛ لِقَوْلِهِ فِي هَذَا الْحَدِيثِ: ( «خُلُقَيْنِ تَخَلَّقْتُ بِهِمَا، أَوْ جَبَلَنِي اللَّهُ عَلَيْهِمَا؟ فَقَالَ: " بَلْ جُبِلْتَ عَلَيْهِمَا» ) .

وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ سُبْحَانَهُ خَالِقُ أَفْعَالِ الْعِبَادِ وَأَخْلَاقِهِمْ، كَمَا هُوَ خَالِقُ ذَوَاتِهِمْ وَصِفَاتِهِمْ، فَالْعَبْدُ كُلُّهُ مَخْلُوقٌ ذَاتُهُ وَصِفَاتُهُ وَأَفْعَالُهُ، وَمَنْ أَخْرَجَ أَفْعَالَهُ عَنْ خَلْقِ اللَّهِ، فَقَدْ جَعَلَ فِيهِ خَالِقًا مَعَ اللَّهِ، وَلِهَذَا شَبَّهَ السَّلَفُ الْقَدَرِيَّةَ النُّفَاةَ بِالْمَجُوسِ، وَقَالُوا: هُمْ مَجُوسُ هَذِهِ الْأُمَّةِ، صَحَّ ذَلِكَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ.

<<  <  ج: ص:  >  >>