للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

كَانَ ذِكْرُهَا وَتَرْكُهَا سَوَاءً، كَمَا لَوِ اكْتَرَى دَارًا لِيَنَامَ فِيهَا أَوْ لِيَسْكُنَهَا، فَإِنَّ الْأُجْرَةَ تَسْتَحِقُّ عَلَيْهِ، وَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ ذَلِكَ، وَكَذَا يَقُولُ: فِيمَا إِذَا اسْتَأْجَرَ رَجُلًا لِيَحْمِلَ خَمْرًا أَوْ مَيْتَةً، أَوْ خِنْزِيرًا: أَنَّهُ يَصِحُّ؛ لِأَنَّهُ لَا يَتَعَيَّنُ حَمْلُ الْخَمْرِ، بَلْ لَوْ حَمَّلَهُ بَدَلَهُ عَصِيرًا اسْتَحَقَّ الْأُجْرَةَ، فَهَذَا التَّقْيِيدُ عِنْدَهُمْ لَغْوٌ، فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الْإِجَارَةِ الْمُطْلَقَةِ، وَالْمُطْلَقَةُ عِنْدَهُ جَائِزَةٌ. وَإِنْ غَلَبَ عَلَى ظَنَّهِ أَنَّ الْمُسْتَأْجِرَ يَعْصِي فِيهَا، كَمَا يَجُوزُ بَيْعُ الْعَصِيرِ لِمَنْ يَتَّخِذُهُ خَمْرًا، ثُمَّ إِنَّهُ كَرِهَ بَيْعَ السِّلَاحِ فِي الْفِتْنَةِ. قَالَ: لِأَنَّ السِّلَاحَ مَعْمُولٌ لِلْقِتَالِ لَا يَصْلُحُ لِغَيْرِهِ، وَعَامَّةُ الْفُقَهَاءِ خَالَفُوهُ فِي الْمُقَدِّمَةِ الْأُولَى، وَقَالُوا: لَيْسَ الْمُقَيَّدُ كَالْمُطْلَقِ، بَلِ الْمَنْفَعَةُ الْمَعْقُودُ عَلَيْهَا هِيَ الْمُسْتَحَقَّةُ، فَتَكُونُ هِيَ الْمُقَابَلَةَ بِالْعِوَضِ، وَهِيَ مَنْفَعَةٌ مُحَرَّمَةٌ، وَإِنْ كَانَ لِلْمُسْتَأْجِرِ أَنْ يُقِيمَ غَيْرَهَا مَقَامَهَا، وَأَلْزَمُوهُ فِيمَا لَوِ اكْتَرَى دَارًا لِيَتَّخِذَهَا مَسْجِدًا، فَإِنَّهُ لَا يَسْتَحِقُّ عَلَيْهِ فِعْلُ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ، وَمَعَ هَذَا فَإِنَّهُ أَبْطَلَ هَذِهِ الْإِجَارَةَ بِنَاءً عَلَى أَنَّهَا اقْتَضَتْ فِعْلَ الصَّلَاةِ، وَهِيَ لَا تُسْتَحَقُّ بِعَقْدِ إِجَارَةٍ.

وَنَازَعَهُ أَصْحَابُ أحمد ومالك فِي الْمُقَدِّمَةِ الثَّانِيَةِ، وَقَالُوا: إِذَا غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ أَنَّ الْمُسْتَأْجِرَ يَنْتَفِعُ بِهَا فِي مُحَرَّمٍ، حَرُمَتِ الْإِجَارَةُ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَعَنَ عَاصِرَ الْخَمْرِ وَمُعْتَصِرَهَا، وَالْعَاصِرُ إِنَّمَا يَعْصِرُ عَصِيرًا، وَلَكِنْ لَمَّا عَلِمَ أَنَّ الْمُعْتَصِرَ يُرِيدُ أَنْ يَتَّخِذَهُ خَمْرًا، فَيَعْصِرُهُ لَهُ، اسْتَحَقَّ اللَّعْنَةَ.

قَالُوا: وَأَيْضًا فَإِنَّ فِي هَذَا مُعَاوَنَةً عَلَى نَفْسِ مَا يَسْخَطُهُ اللَّهُ وَيَبْغَضُهُ، وَيَلْعَنُ فَاعِلَهُ، فَأُصُولُ الشَّرْعِ وَقَوَاعِدُهُ تَقْتَضِي تَحْرِيمَهُ وَبُطْلَانَ الْعَقْدِ عَلَيْهِ، وَسَيَأْتِي مَزِيدُ تَقْرِيرِ هَذَا عِنْدَ الْكَلَامِ عَلَى حُكْمِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِتَحْرِيمِ الْعِينَةِ وَمَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا مِنَ الْعُقُوبَةِ.

قَالَ شَيْخُنَا: وَالْأَشْبَهُ طَرِيقَةُ ابن موسى، يَعْنِي أَنَّهُ يُقْضَى لَهُ بِالْأُجْرَةِ وَإِنْ كَانَتِ الْمَنْفَعَةُ مُحَرَّمَةً، وَلَكِنْ لَا يَطِيبُ لَهُ أَكْلُهَا. قَالَ: فَإِنَّهَا أَقْرَبُ إِلَى مَقْصُودِ أحمد، وَأَقْرَبُ إِلَى الْقِيَاسِ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَعَنَ عَاصِرَ الْخَمْرِ، وَمُعْتَصِرَهَا، وَحَامِلَهَا، وَالْمَحْمُولَةَ إِلَيْهِ. فَالْعَاصِرُ وَالْحَامِلُ قَدْ عَاوَضَا عَلَى مَنْفَعَةٍ تَسْتَحِقُّ

<<  <  ج: ص:  >  >>