للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

[الْمَبْحَثُ السَّابِعُ: فِي أُمُورٍ مُتَفَرِّقَةٍ]

اخْتَلَفَ الْأَصْحَابُ: هَلْ النِّيَّةُ رُكْنٌ فِي الْعِبَادَاتِ، أَوْ شَرْطٌ؟ فَاخْتَارَ الْأَكْثَرُ أَنَّهَا رُكْنٌ ; لِأَنَّهَا دَاخِلُ الْعِبَادَةِ. وَذَلِكَ شَأْنُ الْأَرْكَانِ، وَالشَّرْطُ مَا يَتَقَدَّمُ عَلَيْهَا، وَيَجِبُ اسْتِمْرَارُهُ فِيهَا، وَاخْتَارَ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ وَابْنُ الصَّبَّاغِ أَنَّهَا شَرْطٌ، وَإِلَّا لَافْتَقَرَتْ إلَى نِيَّةٍ أُخْرَى تَنْدَرِجُ فِيهِ. كَمَا فِي أَجْزَاءِ الْعِبَادَاتِ فَوَجَبَ أَنْ تَكُونَ شَرْطًا خَارِجًا عَنْهَا، وَالْأَوَّلُونَ انْفَصَلُوا عَنْ ذَلِكَ بِلُزُومِ التَّسَلْسُلِ.

وَاخْتَلَفَ كَلَامُ الْغَزَالِيِّ فِي ذَلِكَ، فَعَدَّهَا فِي الصَّوْمِ رُكْنًا وَقَالَ فِي الصَّلَاةِ: هِيَ بِالشُّرُوطِ أَشْبَهُ، وَوَقَعَ الْعَكْسُ مِنْ ذَلِكَ فِي كَلَامِ الشَّيْخَيْنِ، فَإِنَّهُمَا عَدَّاهَا فِي الصَّلَاةِ رُكْنًا، وَقَالَا فِي الصَّوْمِ: النِّيَّةُ شَرْطُ الصَّوْمِ. وَهَذَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَجْهٌ مِنْ جِهَةِ أَنَّهَا فِي الصَّوْمِ مُتَقَدِّمَةٌ عَلَيْهِ.

وَقَالَ الْعَلَائِيُّ: يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: مَا كَانَتْ النِّيَّةُ مُعْتَبَرَةً فِي صِحَّتِهِ، فَهِيَ رُكْنٌ فِيهِ، وَمَا يَصِحُّ بِدُونِهَا، وَلَكِنْ يَتَوَقَّفُ حُصُولُ الثَّوَابِ عَلَيْهَا، كَالْمُبَاحَاتِ، وَالْكَفِّ عَنْ الْمَعَاصِي: فَنِيَّةُ التَّقَرُّبِ شَرْطٌ فِي الثَّوَابِ.

تَنْبِيهٌ:

قَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ: كَانَ الشَّيْخُ عِزُّ الدِّينِ بْنُ عَبْدِ السَّلَامِ يَسْتَشْكِلُ مَعْرِفَةَ حَقِيقَةِ الْإِحْرَامِ جِدًّا، وَيَبْحَثُ فِيهِ كَثِيرًا، فَإِذَا قِيلَ لَهُ: إنَّهُ النِّيَّةُ، اعْتَرَضَ عَلَيْهِ بِأَنَّ النِّيَّةَ شَرْطٌ فِي الْحَجِّ الَّذِي الْإِحْرَامُ رُكْنُهُ، وَشَرْطُ الشَّيْءِ بِغَيْرِهِ. وَإِذَا قِيلَ لَهُ: إنَّهُ التَّلْبِيَةُ اعْتَرَضَ عَلَيْهِ بِأَنَّهَا لَيْسَتْ بِرُكْنٍ.

وَعِبَارَتُهُ فِي الْقَوَاعِدِ: وَمِنْ الْمُشْكِلِ قَوْلُهُمْ: إنَّ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ يَنْعَقِدَانِ بِمُجَرَّدِ نِيَّةِ الْإِحْرَامِ، مِنْ غَيْرِ قَوْلٍ وَلَا فِعْلٍ، فَإِنْ أُرِيدَ بِالْإِحْرَامِ أَفْعَالُ الْحَجِّ، لَمْ يَصِحّ، لِأَنَّهُ لَمْ يَتَلَبَّسْ بِشَيْءٍ مِنْهَا وَقْتَ النِّيَّةِ، وَإِنْ أُرِيد الِانْكِفَافُ عَنْ الْمَحْظُورَاتِ، لَمْ يَصِحّ ; لِأَنَّهُ لَوْ نَوَى الْإِحْرَامَ مَعَ مُلَابَسَةِ الْمَحْظُورَاتِ صَحَّ ; وَلِأَنَّهُ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَمَا صَحَّ إحْرَامُ مَنْ جَهِلَ وُجُوبَ الْكَفِّ ; لِأَنَّ الْجَهْلَ بِهِ يَمْنَعُ تَوَجُّهَ النِّيَّةِ إلَيْهِ ; إذْ لَا يَصِحُّ قَصْدُ مَا يَجْهَلُ حَقِيقَتَهُ.

وَفِي التَّلْقِينِ لِابْنِ سُرَاقَةَ: الْإِحْرَامُ النِّيَّةُ بِالْحَجِّ وَالْعَزْمُ عَلَى فِعْلِهِ، وَقَالَ ابْنُ عَبْدَانَ: الْإِحْرَامُ أَنْ يَنْوِيَ أَنَّهُ قَدْ أَحْرَمَ. وَغَلِطَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا فَجَعَلَ النِّيَّةَ غَيْرَ الْإِحْرَامِ وَأَشَارَ بِهِ إلَى ابْنِ سُرَيْجٍ، حَيْثُ قَالَ: لَا يَتِمُّ الْحَجُّ إلَّا بِالنِّيَّةِ لِلْإِحْرَامِ، وَالْإِحْرَام وَعِبَارَةُ التَّنْبِيهِ: وَيَنْوِي الْإِحْرَام بِقَلْبِهِ، وَهُوَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ النِّيَّةَ غَيْرُ الْإِحْرَامِ وَذَلِكَ هُوَ التَّحْقِيقُ، فَإِنَّهُ لَوْ أَحْرَمَ إحْرَامًا مُطْلَقًا فَلَهُ صَرْفُهُ إلَى مَا شَاءَ، فَالنِّيَّةُ غَيْرُ الْمَنْوِيِّ.

وَقَالَ النَّوَوِيُّ: الْإِحْرَامُ: نِيَّة الدُّخُولِ فِي الْحَجِّ أَوْ الْعُمْرَةِ. قَالَ ابْنُ الرِّفْعَةِ: وَهَذَا التَّفْسِيرُ يُخْرِجُ الْإِحْرَامَ الْمُطْلَقَ فَالْوَجْهُ أَنْ يُقَالَ: هُوَ نِيَّةُ حَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ أَوْ هُمَا أَوْ مَا يَصِحُّ لِأَحَدِهِمَا، وَهُوَ الْمُطْلَقُ.

تَنْبِيهٌ آخَر:

أَجْرُوا النِّيَّةَ مَجْرَى الشُّرُوطِ فِي مَسْأَلَةٍ: وَهِيَ مَا لَوْ شَكَّ بَعْدَ الصَّلَاةِ فِي تَرْكِهَا أَوْ تَرْكِ الطَّهَارَةِ ; فَإِنَّهُ يَجِبُ الْإِعَادَةُ، بِخِلَافِ مَا لَوْ شَكَّ فِي تَرْك رُكْنٍ. قَالَ فِي شَرْحِ

<<  <   >  >>