للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

بُرْقُوقٍ، وَمِنْهَا أَنَّكَ إِذَا تَأَمَّلْتَ فَتَاوَى النووي، وَابْنِ الصَّلَاحِ وَجَدْتَهُمَا يُشَدِّدَانِ فِي الْأَوْقَافِ غَايَةَ التَّشْدِيدِ، وَإِذَا تَأَمَّلْتَ فَتَاوَى السبكي، والبلقيني، وَسَائِرِ الْمُتَأَخِّرِينَ وَجَدْتَهُمْ يُرَخِّصُونَ وَيُسَهِّلُونَ وَلَيْسَ ذَلِكَ مِنْهُمْ لِمُخَالَفَةٍ للنووي، بَلْ كُلٌّ تَكَلَّمَ بِحَسَبِ الْوَاقِعِ فِي زَمَنِهِ، فَإِنَّ غَالِبَ الْأَوْقَافِ الَّتِي كَانَتْ فِي زَمَنِ النووي، وَابْنِ الصَّلَاحِ كَانَتْ خَاصَّةً، وَإِنَّمَا حَدَثَتْ أَوْقَافُ الْأَتْرَاكِ فِي أَوَاخِرِ الْقَرْنِ السَّابِعِ وَكَثُرَتْ فِي الْقَرْنِ الثَّامِنِ وَهُوَ عَصْرُ السبكي وَمَنْ بَعْدَهُ، وَقُطِعَتِ الْأَرْزَاقُ الَّتِي كَانَتْ تَجْرِي عَلَى الْفُقَهَاءِ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ مِنْ عَهْدِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ إِلَى الْخَلِيفَةِ المستعصم كُلَّ عَامٍ فَرَأَى الْعُلَمَاءُ أَنَّ هَذِهِ الْأَوْقَافَ أَرُصِدَتْ لَهُمْ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ عِوَضًا عَمَّا كَانُوا يَأْخُذُونَهُ مِنْهُ كُلَّ عَامٍ، فَرَخَّصُوا فِيهَا؛ لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَأْخُذُونَ ذَلِكَ الْقَدْرَ مِنْ غَيْرِ عَمَلٍ يُكَلَّفُونَهُ بَلْ عَلَى الْقِيَامِ بِالْعِلْمِ، خَاصَّةً فَمَنْ كَانَ بِهَذِهِ الصِّفَةِ جَازَ لَهُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ الْأَخْذُ مِنْهَا، وَإِنْ لَمْ يَقُمْ بِمَا شَرَطَهُ الْوَاقِفُ، وَمَنْ لَمْ يَكُنْ بِصِفَةِ الْقِيَامِ بِالْعِلْمِ اشْتِغَالًا وَإِشْغَالًا حَرُمَ عَلَيْهِ الْأَخْذُ مِنْهَا، وَإِنْ بَاشَرَ الْعَمَلَ.

وَقَدْ قَالَ الدميري فِي شَرْحِ الْمِنْهَاجِ: سَأَلْتُ شَيْخَنَا - يَعْنِي الأسنوي - مَرَّتَيْنِ عَنْ غَيْبَةِ الطَّالِبِ عَنِ الدَّرْسِ هَلْ يَسْتَحِقُّ الْمَعْلُومَ أَوْ يُعْطَى بِقِسْطِ مَا حَضَرَ؟ فَقَالَ: إِنْ كَانَ الطَّالِبُ فِي حَالِ انْقِطَاعِهِ يَشْتَغِلُ بِالْعِلْمِ اسْتَحَقَّ وَإِلَّا فَلَا، وَلَوْ حَضَرَ وَلَمْ يَكُنْ بِصَدَدِ الِاشْتِغَالِ لَمْ يَسْتَحِقَّ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ نَفْعُهُ بِالْعِلْمِ لَا مُجَرَّدُ حُضُورِهِ، وَكَانَ يَذْهَبُ إِلَى أَنَّ ذَلِكَ مِنْ بَابِ الْإِرْصَادِ، وَقَالَ الزركشي فِي شَرْحِ الْمِنْهَاجِ: ظَنَّ بَعْضُهُمْ أَنَّ الْجَامَكِيَّةَ عَلَى الْإِمَامَةِ وَالطَّلَبِ وَنَحْوِهِمَا مِنْ بَابِ الْإِجَارَةِ حَتَّى لَا يَسْتَحِقَّ شَيْئًا إِذَا أَخَلَّ بِبَعْضِ الصَّلَوَاتِ أَوِ الْأَيَّامِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ، بَلْ هُوَ مِنْ بَابِ الْإِرْصَادِ وَالْإِرْزَاقِ الْمَبْنِيِّ عَلَى الْإِحْسَانِ وَالْمُسَامَحَةِ بِخِلَافِ الْإِجَارَةِ فَإِنَّهَا مِنْ بَابِ الْمُعَاوَضَةُ، وَلِهَذَا يَمْتَنِعُ أَخْذُ الْأُجْرَةِ عَلَى الْقَضَاءِ وَيَجُوزُ إِرْزَاقُهُ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ بِالْإِجْمَاعِ انْتَهَى، وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ الزركشي صَحِيحٌ، وَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى الْأَوْقَافِ الَّتِي هِيَ مِنَ الْقِسْمِ الثَّانِي كَمَا كَانَ الْأَكْثَرُ فِي زَمَانِهِ، وَإِذَا قُلْنَا بِقَوْلِهِ مِنَ الِاسْتِحْقَاقِ مَعَ الْغَيْبَةِ قُلْنَا بِهِ مَعَ الِاسْتِنَابَةِ مِنْ بَابِ أَوْلَى، وَلَا نَقُولُ بِوَاحِدٍ مِنَ الْأَمْرَيْنِ فِي الْأَوْقَافِ الَّتِي مِنَ الْقِسْمِ الْأَوَّلِ، وَعَلَى هَذَا تُحْمَلُ فَتْوَى النَّوَوِيِّ بِالْمَنْعِ، وَنَقُولُ فِي الْقِسْمِ الثَّانِي بِجَوَازِ النُّزُولِ وَإِعْطَاءِ الْوَظِيفَةِ لِلْوَلَدِ الصَّغِيرِ وَلَا نَقُولُ بِذَلِكَ فِي الْقِسْمِ الْأَوَّلِ، وَيَنْبَنِي عَلَى ذَلِكَ أَيْضًا مَسْأَلَةُ تَقْدِيمِ الشَّيْخِ، فَمَا كَانَ مِنَ الْقِسْمِ الْأَوَّلِ لَا يُقَدَّمُ فِيهِ أَحَدٌ عَلَى أَحَدٍ إِلَّا بِنَصٍّ مِنَ الْوَاقِفِ، وَمَا كَانَ مِنَ الْقِسْمِ الثَّانِي يُنْظَرُ، فَإِنْ كَانَ الشَّيْخُ بِصِفَةِ الِاسْتِحْقَاقِ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ لِاتِّصَافِهِ بِالْعِلْمِ، وَبَقِيَّةُ الْمُنْزَلِينَ لَيْسُوا كَذَلِكَ قُدِّمَ الشَّيْخُ

<<  <  ج: ص:  >  >>