للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

قُلْتُ: وَقَدْ ظَهَرَ لِي تَخْرِيجُهُ عَلَى أَصْلٍ آخَرَ، وَهُوَ مَا أَخْرَجَهُ الْبَيْهَقِيُّ عَنْ أَنَسٍ «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَقَّ عَنْ نَفْسِهِ بَعْدَ النُّبُوَّةِ» مَعَ أَنَّهُ قَدْ وَرَدَ أَنَّ جَدَّهُ عبد المطلب عَقَّ عَنْهُ فِي سَابِعِ وِلَادَتِهِ، وَالْعَقِيقَةُ لَا تُعَادُ مَرَّةً ثَانِيَةً، فَيُحْمَلُ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الَّذِي فَعَلَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِظْهَارٌ لِلشُّكْرِ عَلَى إِيجَادِ اللَّهِ إِيَّاهُ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ وَتَشْرِيعٌ لِأُمَّتِهِ كَمَا كَانَ يُصَلِّي عَلَى نَفْسِهِ لِذَلِكَ، فَيُسْتَحَبُّ لَنَا أَيْضًا إِظْهَارُ الشُّكْرِ بِمَوْلِدِهِ بِالِاجْتِمَاعِ وَإِطْعَامِ الطَّعَامِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنْ وُجُوهِ الْقُرُبَاتِ وَإِظْهَارِ الْمَسَرَّاتِ، ثُمَّ رَأَيْتُ إِمَامَ الْقُرَّاءِ الْحَافِظَ شمس الدين ابن الجزري قَالَ فِي كِتَابِهِ الْمُسَمَّى "عَرْفُ التَّعْرِيفِ بِالْمَوْلِدِ الشَّرِيفِ" مَا نَصُّهُ: قَدْ رُؤِيَ أبو لهب بَعْدَ مَوْتِهِ فِي النَّوْمِ، فَقِيلَ لَهُ: مَا حَالُكَ، فَقَالَ: فِي النَّارِ، إِلَّا أَنَّهُ يُخَفَّفُ عَنِّي كُلَّ لَيْلَةِ اثْنَيْنِ وَأَمُصُّ مِنْ بَيْنِ أُصْبُعَيَّ مَاءً بِقَدْرِ هَذَا - وَأَشَارَ لِرَأْسِ أُصْبُعِهِ - وَأَنَّ ذَلِكَ بِإِعْتَاقِي لثويبة عِنْدَمَا بَشَّرَتْنِي بِوِلَادَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبِإِرْضَاعِهَا لَهُ. فَإِذَا كَانَ أبو لهب الْكَافِرُ الَّذِي نَزَلَ الْقُرْآنُ بِذَمِّهِ جُوزِيَ فِي النَّارِ بِفَرَحِهِ لَيْلَةَ مَوْلِدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِهِ، فَمَا حَالُ الْمُسْلِمِ الْمُوَحِّدِ مِنْ أُمَّةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُسَرُّ بِمَوْلِدِهِ وَيَبْذُلُ مَا تَصِلُ إِلَيْهِ قُدْرَتُهُ فِي مَحَبَّتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ لَعَمْرِي إِنَّمَا يَكُونُ جَزَاؤُهُ مِنَ اللَّهِ الْكَرِيمِ أَنْ يُدْخِلَهُ بِفَضْلِهِ جَنَّاتِ النَّعِيمِ. وَقَالَ الْحَافِظُ شمس الدين ابن ناصر الدين الدمشقي فِي كِتَابِهِ الْمُسَمَّى "مَوْرِدُ الصَّادِي فِي مَوْلِدِ الْهَادِي": قَدْ صَحَّ أَنَّ أبا لهب يُخَفَّفُ عَنْهُ عَذَابُ النَّارِ فِي مِثْلِ يَوْمِ الِاثْنَيْنِ لِإِعْتَاقِهِ ثويبة سُرُورًا بِمِيلَادِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ أَنْشَدَ:

إِذَا كَانَ هَذَا كَافِرًا جَاءَ ذَمُّهُ ... وَتَبَّتْ يَدَاهُ فِي الْجَحِيمِ مُخَلَّدَا

أَتَى أَنَّهُ فِي يَوْمِ الِاثْنَيْنِ دَائِمًا ... يُخَفَّفُ عَنْهُ لِلسُّرُورِ بِأَحْمَدَا

فَمَا الظَّنُّ بِالْعَبْدِ الَّذِي طُولَ عُمْرِهِ ... بِأَحْمَدَ مَسْرُورًا وَمَاتَ مُوَحِّدَا

وَقَالَ الكمال الأدفوي فِي "الطَّالِعِ السَّعِيدِ": حَكَى لَنَا صَاحِبُنَا الْعَدْلُ ناصر الدين محمود ابن العماد أَنَّ أبا الطيب محمد بن إبراهيم السبتي المالكي نَزِيلَ قُوصَ، أَحَدَ الْعُلَمَاءِ الْعَامِلِينَ، كَانَ يَجُوزُ بِالْمَكْتَبِ فِي الْيَوْمِ الَّذِي فِيهِ وُلِدَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَيَقُولُ: يَا فَقِيهُ، هَذَا يَوْمُ سُرُورٍ اصْرِفِ الصِّبْيَانَ، فَيَصْرِفُنَا، وَهَذَا مِنْهُ دَلِيلٌ عَلَى تَقْرِيرِهِ وَعَدَمِ إِنْكَارِهِ، وَهَذَا الرَّجُلُ كَانَ فَقِيهًا مَالِكِيًّا مُتَفَنِّنًا فِي عُلُومٍ، مُتَوَرِّعًا، أَخَذَ عَنْهُ أبو حيان وَغَيْرُهُ، وَمَاتَ سَنَةَ خَمْسٍ وَتِسْعِينَ وَسِتِّمِائَةٍ.

(فَائِدَةٌ) قَالَ ابن الحاج: فَإِنْ قِيلَ: مَا الْحِكْمَةُ فِي كَوْنِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ خُصَّ مَوْلِدُهُ

<<  <  ج: ص:  >  >>