للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الدين، وَمَنْ قَالَ: إِنَّهَا تُفِيدُهُ فِيهِ، قَيَّدَهُ بِأَنْ لَا يَكُونَ هُنَاكَ عَهْدٌ، فَإِنْ كَانَ لَمْ تُفِدْهُ قَطْعًا، هَذَا هُوَ الْمُقَرَّرُ فِي عِلْمِ الْأُصُولِ. وَالْأَتْقَى مُفْرَدٌ لَا جَمْعٌ، وَالْعَهْدُ فِيهِ مَوْجُودٌ فَلَا عُمُومَ فِيهِ قَطْعًا، فَعُلِمَ بِذَلِكَ أَنَّهُ لَا عُمُومَ فِي الْأَتْقَى. فَتَأَمَّلْ فَإِنَّهُ نَفِيسٌ فَتَحَ اللَّهُ بِهِ عَلَيَّ تَأْيِيدًا لِلْجَنَابِ الصِّدِّيقِيِّ.

الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ الْأَتْقَى أَفْعَلُ تَفْضِيلٍ، وَأَفْعَلُ التَّفْضِيلِ لَا عُمُومَ فِيهِ، بَلْ وَضْعُهُ لِلْخُصُوصِ ; فَإِنَّهُ لِتَفَرُّدِ الْمَوْصُوفِ بِالصِّفَةِ، وَأَنَّهُ لَا مُسَاوِيَ لَهُ فِيهَا، كَمَا تَقُولُ: زَيْدٌ أَفْضَلُ النَّاسِ، أَوِ الْأَفْضَلُ، فَإِنَّهَا صِيغَةُ خُصُوصٍ قَطْعًا عَقْلًا وَنَقْلًا، وَلَا يَجُوزُ أَنْ تَتَنَاوَلَ غَيْرَهُ أَبَدًا، فَبَانَ بِذَلِكَ أَنَّهُ لَا عُمُومَ فِي الْأَتْقَى، وَإِلَى ذَلِكَ يُشِيرُ تَقْرِيرُ الأصبهاني حَيْثُ قَالَ: فَإِنْ قُلْتَ: كَيْفَ قَالَ: {لَا يَصْلَاهَا إِلَّا الْأَشْقَى} [الليل: ١٥] {وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى} [الليل: ١٧] . وَقَدْ عُلِمَ أَنَّ كُلَّ شَقِيٍّ يَصْلَاهَا، وَكُلَّ تَقِيٍّ يُجَنَّبُهَا؟ لَا يَخْتَصُّ بِالصِّلِيِّ أَشْقَى الْأَشْقِيَاءِ وَلَا بِالنَّجَاةِ أَتْقَى الْأَتْقِيَاءِ، وَإِنْ زَعَمْتَ أَنَّهُ نَكَّرَ النَّارَ فَأَرَادَ نَارًا بِعَيْنِهَا مَخْصُوصَةً بِالْأَشْقَى، فَمَا تَصْنَعُ بِقَوْلِهِ: {وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى} [الليل: ١٧] ، فَقَدْ عُلِمَ أَنَّ أَفْسَقَ الْمُسْلِمِينَ يُجَنَّبُ تِلْكَ النَّارَ الْمَخْصُوصَةَ لَا الْأَتْقَى مِنْهُمْ خَاصَّةً.

قُلْتُ: الْآيَةُ وَارِدَةٌ فِي الْمُوَازَنَةِ بَيْنَ حَالَتَيْ عَظِيمٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَعَظِيمٍ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، فَأُرِيدَ أَنْ يُبَالَغَ فِي صِفَتِهِمَا الْمُتَنَاقِضَتَيْنِ فَقِيلَ: الْأَشْقَى، وَجُعِلَ مُخْتَصًّا بِالصِّلِيِّ، كَأَنَّ النَّارَ لَمْ تُخْلَقْ إِلَّا لَهُ، وَقِيلَ: الْأَتْقَى، وَجُعِلَ مُخْتَصًّا بِالنَّجَاةِ، كَأَنَّ الْجَنَّةَ لَمْ تُخْلَقْ إِلَّا لَهُ. هَذِهِ عِبَارَتُهُ وَهِيَ صَرِيحَةٌ فِي إِرَادَةِ الْخُصُوصِ؛ أَخْذًا مِنْ صِيغَةِ أَفْعَلِ التَّفْضِيلِ، وَمَنْ جَنَحَ مِنْ أَهْلِ الْعَرَبِيَّةِ إِلَى أَنَّهَا لِلْعُمُومِ احْتَاجَ إِلَى تَأْوِيلِ الْأَتْقَى بِالتُّقَى لِيَخْرُجَ عَنِ التَّفْضِيلِ، وَهَذَا مَجَازٌ قَطْعًا، وَالْمَجَازُ خِلَافُ الْأَصْلِ، وَلَا يُصَارُ إِلَيْهِ إِلَّا بِدَلِيلٍ، وَلَا دَلِيلَ يُسَاعِدُهُ، بَلِ الدَّلِيلُ يُعَارِضُهُ، وَهُوَ الْأَحَادِيثُ الْوَارِدَةُ فِي سَبَبِ النُّزُولِ، وَإِجْمَاعُ الْمُفَسِّرِينَ كَمَا نَقَلَهُ مَنْ تَقَدَّمَ، فَثَبَتَ بِهَذَا كُلِّهِ أَنَّ الْكَلَامَ عَلَى حَقِيقَتِهِ لِلتَّفْضِيلِ، وَأَنَّ اللَّامَ لِلْعَهْدِ، وَأَنَّهُ لَا عُمُومَ فِيهِ أَصْلًا.

فَإِنْ قُلْتَ: لَمْ يُؤْخَذِ الْعُمُومُ مِنْ لَفْظِ (الْأَتْقَى) بَلْ مِنْ لَفْظِ (الَّذِي يُؤْتِي) ، فَإِنَّ (الَّذِي) مِنْ صِيَغِ الْعُمُومِ.

قُلْتُ: هَذِهِ غَفْلَةٌ مِنْكَ وَجَهْلٌ بِالْعَرَبِيَّةِ؛ فَإِنَّ (الَّذِي) وَصْفٌ لِلْأَتْقَى، وَقَدْ تَبَيَّنَ أَنَّ الْأَتْقَى خَاصٌّ، فَيَجِبُ أَنْ تَكُونَ صِفَتُهُ كَذَلِكَ، لِمَا تَقَرَّرَ فِي الْعَرَبِيَّةِ أَنَّ الْوَصْفَ لَا يَكُونُ أَعَمَّ مِنَ الْمَوْصُوفِ، بَلْ مُسَاوِيًا لَهُ أَوْ أَخَصَّ مِنْهُ، فَاشْدُدْ بِهَذَا الْكَلَامِ يَدَيْكَ وَعَضَّ عَلَيْهِ بِنَاجِذَيْكَ، عَلَى أَنَّ فِي قَوْلِهِ: {وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى} [الليل: ١٩] وَقَوْلِهِ: {وَلَسَوْفَ يَرْضَى} [الليل: ٢١] مَا يُشِيرُ إِلَى التَّنْصِيصِ عَلَى التَّخْصِيصِ، وَقَدْ قَرَّرَ الإمام فخر الدين اخْتِصَاصَ الْآيَةِ بأبي

<<  <  ج: ص:  >  >>