للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

أَحَدُهُمَا: مَا رَوَى مَالِكٌ عَنِ ابْنِ عُمَرَ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَعَثَ سَرِيَّةً فِيهَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ قِبَلَ نَجْدٍ، فَغَنِمُوا إِبِلًا كَثِيرَةً، فَكَانَ سُهْمَانُهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ بَعِيرًا، وَنُفِّلُوا بَعِيرًا بَعِيرًا» . وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ النَّفْلَ كَانَ بَعْدَ الْقِسْمَةِ مِنَ الْخُمُسِ.

وَالثَّانِي: حَدِيثُ حَبِيبِ بْنِ مَسْلَمَةَ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يُنَفِّلُ الرُّبُعَ مِنَ السَّرَايَا بَعْدَ الْخُمُسِ فِي الْبَدَاءَةِ، وَيُنَفِّلُهُمُ الثُّلُثَ بَعْدَ الْخُمُسِ فِي الرَّجْعَةِ» . يَعْنِي: فِي بَدَاءَةِ غَزْوِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -، وَفِي انْصِرَافِهِ.

وأَمَّا الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: وَهِيَ مَا مِقْدَارُ مَا لِلْإِمَامِ أَنْ يُنَفِّلَ مِنْ ذَلِكَ؟ عِنْدَ الَّذِينَ أَجَازُوا النَّفْلَ مِنْ رَأْسِ الْغَنِيمَةِ فَإِنَّ قَوْمًا قَالُوا: لَا يَجُوزُ أَنْ يُنَفِّلَ أَكْثَرَ مِنَ الثُّلُثِ أَوِ الرُّبُعِ عَلَى حَدِيثِ حَبِيبِ بْنِ مَسْلَمَةَ. وَقَالَ قَوْمٌ: إِنْ نَفَّلَ الْإِمَامُ السَّرِيَّةَ جَمِيعَ مَا غَنِمَتْ جَازَ، مَصِيرًا إِلَى أَنَّ آيَةَ الْأَنْفَالِ غَيْرُ مَنْسُوخَةٍ بَلْ مُحْكَمَةٌ، وَأَنَّهَا عَلَى عُمُومِهَا غَيْرُ مُخَصَّصَةٍ. وَمَنْ رَأَى أَنَّهَا مُخَصَّصَةٌ بِهَذَا الْأَثَرِ قَالَ: لَا يَجُوزُ أَنْ يُنَفِّلَ أَكْثَرَ مِنَ الرُّبُعِ أَوِ الثُّلُثِ.

وأَمَّا الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: وَهِيَ هَلْ يَجُوزُ الْوَعْدُ بِالتَّنْفِيلِ قَبْلَ الْحَرْبِ؟ أَمْ لَيْسَ يَجُوزُ ذَلِكَ؟ فَإِنَّهُمُ اخْتَلَفُوا فِيهِ، فَكَرِهُ ذَلِكَ مَالِكٌ، وَأَجَازَهُ جَمَاعَةٌ. وَسَبَبُ اخْتِلَافِهِمْ مُعَارَضَةُ مَفْهُومِ مَقْصِدِ الْغَزْوِ لِظَاهِرِ الْأَثَرِ، وَذَلِكَ أَنَّ الْغَزْوَ إِنَّمَا يُقْصَدُ بِهِ وَجْهُ اللَّهِ الْعَظِيمِ، وَلِتَكُونَ كَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا، فَإِذَا وَعَدَ الْإِمَامُ بِالنَّفْلِ قَبْلَ الْحَرْبِ خِيفَ أَنْ يَسْفِكَ دِمَاءَهُمْ الْغُزَاةُ فِي حَقِّ غَيْرِ اللَّهِ.

وَأَمَّا الْأَثَرُ الَّذِي يَقْتَضِي ظَاهِرُهُ جَوَازَ الْوَعْدِ بِالنَّفْلِ فَهُوَ حَدِيثُ حَبِيبِ بْنِ مَسْلَمَةَ «أَنَّ النَّبِيَّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - كَانَ يُنَفِّلُ فِي الْغَزْوِ السَّرَايَا الْخَارِجَةَ مِنَ الْعَسْكَرِ الرُّبُعَ، وَفِي الْقُفُولِ الثُّلُثَ» . وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ هَذَا إِنَّمَا هُوَ التَّنْشِيطُ عَلَى الْحَرْبِ.

وأَمَّا الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: وَهِيَ هَلْ يَجِبُ سَلَبُ الْمَقْتُولِ لِلْقَاتِلِ؟ أَوْ لَيْسَ يَجِبُ إِلَّا إِنْ نَفَّلَهُ لَهُ الْإِمَامُ؟ فَإِنَّهُمُ اخْتَلَفُوا فِي ذَلِكَ، فَقَالَ مَالِكٌ: لَا يَسْتَحِقُّ الْقَاتِلُ سَلَبَ الْمَقْتُولِ إِلَّا أَنْ يُنَفِّلَهُ لَهُ الْإِمَامُ عَلَى جِهَةِ الِاجْتِهَادِ، وَذَلِكَ بَعْدَ الْحَرْبِ، وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَالثَّوْرِيُّ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ، وَأَحْمَدُ، وَأَبُو ثَوْرٍ، وَإِسْحَاقُ، وَجَمَاعَةٌ مِنَ السَّلَفِ: وَاجِبٌ لِلْقَاتِلِ، قَالَ ذَلِكَ الْإِمَامُ أَوْ لَمْ يَقُلْهُ.

وَمِنْ هَؤُلَاءِ مَنْ جَعَلَ السَّلَبَ لَهُ عَلَى كُلِّ حَالٍ، وَلَمْ يَشْتَرِطْ فِي ذَلِكَ شَرْطًا. وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: لَا يَكُونُ لَهُ السَّلَبُ إِلَّا إِذَا قَتَلَهُ مُقْبِلًا غَيْرَ مُدْبِرٍ، وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ. وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: لَا يَكُونُ لَهُ السَّلَبُ إِلَّا إِذَا قَتَلَهُ مُقْبِلًا قَبْلَ مَعْمَعَةِ الْحَرْبِ أَوْ بَعْدَهَا.

<<  <  ج: ص:  >  >>