للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

كَانَ الْبَيْعُ فِيهِ وَاجِبًا فَلَا خِلَافَ فِي أَنَّهُ لَا يَجُوزُ، وَأَمَّا إِذَا لَمْ يَكُنِ الْبَيْعُ لَازِمًا فِي أَحَدِهِمَا فَأَجَازَهُ مَالِكٌ، وَمَنَعَهُ أَبُو حَنِيفَةَ، وَالشَّافِعِيُّ، لِأَنَّهُمَا افْتَرَقَا عَلَى ثَمَنٍ غَيْرِ مَعْلُومٍ; وَجَعَلَهُ مَالِكٌ مِنْ بَابِ الْخِيَارِ، لِأَنَّهُ إِذَا كَانَ عِنْدَهُ عَلَى الْخِيَارِ لَمْ يُتَصَوَّرْ فِيهِ نَدَمٌ يُوجِبُ تَحْوِيلَ أَحَدِ الثَّمَنَيْنِ فِي الْآخَرِ، وَهَذَا عِنْدَ مَالِكٍ هُوَ الْمَانِعُ، فَعِلَّةُ امْتِنَاعِ هَذَا الْوَجْهِ الثَّالِثِ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ، وَأَبِي حَنِيفَةَ مِنْ جِهَةِ جَهْلِ الثَّمَنِ، فَهُوَ عِنْدَهُمَا مِنْ بُيُوعِ الْغَرَرِ الَّتِي نُهِيَ عَنْهَا; وَعِلَّةُ امْتِنَاعِهِ عِنْدَ مَالِكٍ سَدُّ الذَّرِيعَةِ الْمُوجِبَةِ لِلرِّبَا لِإِمْكَانِ أَنْ يَكُونَ الَّذِي لَهُ الْخِيَارُ قَدِ اخْتَارَ أَوَّلًا إِنْفَاذَ الْعَقْدِ بِأَحَدِ الثَّمَنَيْنِ الْمُؤَجَّلِ أَوِ الْمُعَجَّلِ ثُمَّ بَدَا لَهُ وَلَمْ يَظْهَرْ ذَلِكَ، فَيَكُونُ قَدْ تَرَكَ أَحَدَ الثَّمَنَيْنِ لِلثَّمَنِ الثَّانِي، فَكَأَنَّهُ بَاعَ أَحَدَ الثَّمَنَيْنِ بِالثَّانِي، فَيَدْخُلُهُ ثَمَنٌ بِثَمَنٍ نَسِيئَةً، أَوْ نَسِيئَةً وَمُتَفَاضِلًا، وَهَذَا كُلُّهُ إِذَا كَانَ الثَّمَنُ نَقْدًا، وَإِنْ كَانَ الثَّمَنُ غَيْرَ نَقْدٍ بَلْ طَعَامًا دَخَلَهُ وَجْهٌ آخَرُ، وَهُوَ بَيْعُ الطَّعَامِ بِالطَّعَامِ مُتَفَاضِلًا.

وَأَمَّا إِذَا قَالَ: أَشْتَرِي مِنْكَ هَذَا الثَّوْبَ نَقْدًا بِكَذَا عَلَى أَنْ تَبِيعَهُ مِنِّي إِلَى أَجَلٍ، فَهُوَ عِنْدَهُمْ لَا يَجُوزُ بِإِجْمَاعٍ، لِأَنَّهُ مِنْ بَابِ الْعِينَةِ (وَهُوَ بَيْعُ الرَّجُلِ مَا لَيْسَ عِنْدَهُ) ، وَيَدْخُلُهُ أَيْضًا عِلَّةُ جَهْلِ الثَّمَنِ.

وَأَمَّا إِذَا قَالَ لَهُ: أَبِيعُكَ أَحَدَ هَذَيْنِ الثَّوْبَيْنِ بِدِينَارٍ، وَقَدْ لَزِمَهُ أَحَدُهُمَا أَيُّهُمَا يَخْتَارُ، وَافْتَرَقَا قَبْلَ الْخِيَارِ، فَإذَا كَانَ الثَّوْبَانِ مِنْ صِنْفَيْنِ وَهُمَا مِمَّا يَجُوزُ أَنْ يُسْلَمَ أَحَدُهُمَا فِي الثَّانِي فَإِنَّهُ لَا خِلَافَ بَيْنِ مَالِكٍ، وَالشَّافِعِيِّ فِي أَنَّهُ لَا يَجُوزُ; وَقَالَ عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ أَبِي سَلَمَةَ: إِنَّهُ يَجُوزُ، وَعِلَّةُ الْمَنْعِ الْجَهْلُ، وَالْغَرَرُ. وَأَمَّا إِنْ كَانَا مِنْ صِنْفٍ وَاحِدٍ فَيَجُوزُ عِنْدَ مَالِكٍ، وَلَا يَجُوزُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَالشَّافِعِيِّ ; وَأَمَّا مَالِكٌ فَإِنَّهُ أَجَازَهُ لِأَنَّهُ يُجِيزُ الْخِيَارَ بَعْدَ عَقْدِ الْبَيْعِ فِي الْأَصْنَافِ الْمُسْتَوِيَةِ لِقِلَّةِ الْغَرَرِ عِنْدَهُ فِي ذَلِكَ; وَأَمَّا مَنْ لَا يُجِيزُهُ فَيَعْتَبِرُهُ بِالْغَرَرِ الَّذِي لَا يَجُوزُ، لِأَنَّهُمَا افْتَرَقَا عَلَى بَيْعٍ غَيْرِ مَعْلُومٍ.

وَبِالْجُمْلَةِ فَالْفُقَهَاءُ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّ الْغَرَرَ الْكَثِيرَ فِي الْمَبِيعَاتِ لَا يَجُوزُ، وَأَنَّ الْقَلِيلَ يَجُوزُ. وَيَخْتَلِفُونَ فِي أَشْيَاءَ مِنْ أَنْوَاعِ الْغَرَرِ، فَبَعْضُهُمْ يُلْحِقُهَا بِالْغَرَرِ الْكَثِيرِ، وَبَعْضُهُمْ يُلْحِقُهَا بِالْغَرَرِ الْقَلِيلِ الْمُبَاحِ لِتَرَدُّدِهَا بَيْنَ الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ.

فَإِذَا قُلْنَا بِالْجَوَازِ عَلَى مَذْهَبِ مَالِكٍ، فَقَبْضُ الثَّوْبَيْنِ مِنَ الْمُشْتَرِي عَلَى أَنْ يَخْتَارَ فَهَلَكَ أَحَدُهُمَا أَوْ أَصَابَهُ عَيْبٌ فَمَنْ يُصِيبُهُ ذَلِكَ؟ فَقِيلَ: تَكُونُ الْمُصِيبَةُ بَيْنَهُمَا، وَقِيلَ: بَلْ يَضْمَنُهُ كُلَّهُ الْمُشْتَرِي، إِلَّا أَنْ تَقُومَ الْبَيِّنَةُ عَلَى هَلَاكِهِ; وَقِيلَ: فَرْقٌ فِي ذَلِكَ بَيْنَ الثِّيَابِ وَمَا يَغْلُبُ عَلَيْهِ وَبَيْنَ مَا لَا يَغْلُبُ عَلَيْهِ كَالْعَبْدِ، فَيُضَمَّنُ فِيمَا يَغْلُبُ عَلَيْهِ، وَلَا يُضَمَّنُ فِيمَا لَا يَغْلُبُ عَلَيْهِ. وَأَمَّا هَلْ يَلْزَمُهُ أَخْذُ الْبَاقِي؟ قِيلَ: يَلْزَمُ، وَقِيلَ: لَا يَلْزَمُ، وَهَذَا يُذْكَرُ فِي أَحْكَامِ الْبُيُوعِ. وَيَنْبَغِي أَنْ نَعْلَمَ أَنَّ الْمَسَائِلَ الدَّاخِلَةَ فِي هَذَا الْمَعْنَى هِيَ: أَمَّا عِنْدَ فُقَهَاءِ الْأَمْصَارِ فَمِنْ بَابِ الْغَرَرِ; وَأَمَّا عِنْدَ مَالِكٍ فَمِنْهَا مَا يَكُونُ عِنْدَهُ مِنْ بَابِ ذَرَائِعِ الرِّبَا، وَمِنْهَا مَا يَكُونُ مِنْ بَابِ الْغَرَرِ،

<<  <  ج: ص:  >  >>