للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

قَالُوا: وَلَنَا فِيهِ تَأْوِيلَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْمُتَبَايِعَيْنِ فِي الْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ هُمَا الْمُتَسَاوِمَانِ اللَّذَانِ لَمْ يَنْفَذْ بَيْنَهُمَا الْبَيْعُ، فَقِيلَ لَهُمْ: إِنَّهُ يَكُونُ الْحَدِيثُ عَلَى هَذَا لَا فَائِدَةَ فِيهِ لِأَنَّهُ مَعْلُومٌ مِنْ دِينِ الْأُمَّةِ أَنَّهُمَا بِالْخِيَارِ إِذْ لَمْ يَقَعْ بَيْنَهُمَا عَقْدٌ بِالْقَوْلِ. وَأَمَّا التَّأْوِيلُ الْآخَرُ، فَقَالُوا: إِنَّ التَّفَرُّقَ هَاهُنَا إِنَّمَا هُوَ كِنَايَةٌ عَنْ الِافْتِرَاقِ بِالْقَوْلِ لَا التَّفَرُّقِ بِالْأَبْدَانِ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلا مِنْ سَعَتِهِ} [النساء: ١٣٠] ، وَالِاعْتِرَاضُ عَلَى هَذَا أَنَّ هَذَا مَجَازٌ لَا حَقِيقَةٌ، وَالْحَقِيقَةُ هِيَ التَّفَرُّقُ بِالْأَبْدَانِ، وَوَجْهُ التَّرْجِيحِ أَنْ يُقَاسَ بَيْنَ ظَاهِرِ هَذَا اللَّفْظِ، وَالْقِيَاسِ فَيُغَلَّبُ الْأَقْوَى، وَالْحِكْمَةُ فِي ذَلِكَ هِيَ لِمَوْضِعِ النَّدَمِ، فَهَذِهِ هِيَ أُصُولُ الرُّكْنِ الْأَوَّلِ الَّذِي هُوَ الْعَقْدُ.

[الْبَابُ الثَّانِي فِي الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ]

وَأَمَّا الرُّكْنُ الثَّانِي الَّذِي هُوَ الْمَعْقُودُ عَلَيْهِ، فَإِنَّهُ يُشْتَرَطُ فِيهِ سَلَامَتُهُ مِنَ الْغَرَرِ وَالرِّبَا، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْمُخْتَلَفُ فِي هَذِهِ مِنَ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ، وَأَسْبَابُ الِاخْتِلَافِ فِي ذَلِكَ، فَلَا مَعْنَى لِتَكْرَارِهِ. وَالْغَرَرُ يَنْتَفِي عَنِ الشَّيْءِ بِأَنْ يَكُونَ مَعْلُومَ الْوُجُودِ، مَعْلُومَ الصِّفَةِ، مَعْلُومَ الْقَدْرِ، مَقْدُورًا عَلَى تَسْلِيمِهِ، وَذَلِكَ فِي الطَّرَفَيْنِ الثَّمَنِ وَالْمَثْمُونِ، مَعْلُومَ الْأَجَلِ أَيْضًا إِنْ كَانَ بَيْعًا مُؤَجَّلًا.

[الْبَابُ الثَّالِثُ فِي الْعَاقِدَيْنِ]

وَأَمَّا الرُّكْنُ الثَّالِثُ وَهُمَا الْعَاقِدَانِ، فَإِنَّهُ يُشْتَرَطُ فِيهِمَا أَنْ يَكُونَا مَالِكَيْنِ تَامَّيِ الْمِلْكِ، أَوْ وَكِيلَيْنِ تَامَّيِ الْوَكَالَةِ بَالْغَبْنِ، وَأَنْ يَكُونَا مَعَ هَذَا غَيْرَ مَحْجُورٍ عَلَيْهِمَا، أَوْ عَلَى أَحَدِهِمَا، إِمَّا لِحَقِّ أَنْفُسِهِمَا كَالسَّفِيهِ عِنْدَ مَنْ يَرَى التَّحْجِيرَ عَلَيْهِ، أَوْ لِحَقِّ الْغَيْرِ كَالْعَبْدِ إِلَّا أَنْ يَكُونَ الْعَبْدُ مَأْذُونًا لَهُ فِي التِّجَارَةِ.

وَاخْتَلَفُوا مِنْ هَذَا فِي بَيْعِ الْفُضُولِيِّ، هَلْ يَنْعَقِدُ أَمْ لَا؟ وَصُورَتُهُ أَنْ يَبِيعَ الرَّجُلُ مَالَ غَيْرِهِ بِشَرْطِ إِنْ رَضِيَ بِهِ صَاحِبُ الْمَالِ أُمْضِيَ الْبَيْعُ، وَإِنْ لَمْ يَرْضَ فُسِخَ، وَكَذَلِكَ فِي شِرَاءِ الرَّجُلِ لِلرَّجُلِ بِغَيْرِ إِذْنِهِ، عَلَى أَنَّهُ إِنْ رَضِيَ الْمُشْتَرِي صَحَّ الشِّرَاءُ وَإِلَّا لَمْ يَصِحَّ، فَمَنَعَهُ الشَّافِعِيُّ فِي الْوَجْهَيْنِ جَمِيعًا، وَأَجَازَهُ مَالِكٌ فِي الْوَجْهَيْنِ جَمِيعًا; وَفَرَّقَ أَبُو حَنِيفَةَ بَيْنَ الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ، فَقَالَ: يَجُوزُ فِي الْبَيْعِ، وَلَا يَجُوزُ فِي الشِّرَاءِ. وَعُمْدَةُ الْمَالِكِيَّةِ: مَا رُوِيَ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دَفَعَ إِلَى عُرْوَةَ الْبَارِقِيِّ دِينَارًا، وَقَالَ: اشْتَرِ لَنَا مِنْ هَذَا الْجَلَبِ شَاةً "، قَالَ: فَاشْتَرَيْتُ شَاتَيْنِ بِدِينَارٍ، وَبِعْتُ إِحْدَى الشَّاتَيْنِ بِدِينَارٍ، وَجِئْتُ بِالشَّاةِ وَالدِّينَارِ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ.. هَذِهِ شَاتُكُمْ، وَدِينَارُكُمْ، فَقَالَ: اللَّهُمَّ بَارِكْ لَهُ فِي صَفْقَةِ يَمِينِهِ» ، وَوَجْهُ الِاسْتِدْلَالِ مِنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يَأْمُرْهُ فِي الشَّاةِ الثَّانِيَةِ لَا بِالشِّرَاءِ وَلَا بِالْبَيْعِ، فَصَارَ ذَلِكَ حُجَّةً عَلَى أَبِي حَنِيفَةَ فِي صِحَّةِ الشِّرَاءِ لِلْغَيْرِ، وَعَلَى الشَّافِعِيِّ فِي الْأَمْرَيْنِ جَمِيعًا.

<<  <  ج: ص:  >  >>