للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وَإِنَّمَا اخْتَلَفُوا عَلَى مَنْ يَعُودُ الضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ: {فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ} [المائدة: ٤٥] قِيلَ عَلَى الْقَاتِلِ لِمَنْ رَأَى لَهُ تَوْبَةً، وَقِيلَ عَلَى الْمَقْتُولِ مِنْ ذُنُوبِهِ وَخَطَايَاهُ.

وَأَمَّا اخْتِلَافُهُمْ فِي عَفْوِ الْمَقْتُولِ خَطَأً عَنِ الدِّيَةِ، فَقَالَ: مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَجُمْهُورُ فُقَهَاءِ الْأَمْصَارِ: إِنَّ عَفْوَهُ مِنْ ذَلِكَ فِي ثُلُثِهِ إِلَّا أَنْ يُجِيزَهُ الْوَرَثَةُ، وَقَالَ قَوْمٌ: يَجُوزُ فِي جَمِيعِ مَالِهِ، وَمِمَّنْ قَالَ بِهِ طَاوُسٌ، وَالْحَسَنُ.

وَعُمْدَةُ الْجُمْهُورِ أَنَّهُ وَاهِبٌ مَالًا لَهُ بَعْدَ مَوْتِهِ فَلَمْ يَجُزْ إِلَّا فِي الثُّلُثِ، أَصْلُهُ الْوَصِيَّةُ. وَعُمْدَةُ الْفِرْقَةِ الثَّانِيَةِ أَنَّهُ إِذَا كَانَ لَهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنِ الدَّمِ فَهُوَ أَحْرَى أَنْ يَعْفُوَ عَنِ الْمَالِ، وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ هِيَ أَخَصُّ بِكِتَابِ الدِّيَاتِ.

وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ إِذَا عَفَا الْمَجْرُوحُ عَنِ الْجِرَاحَاتِ، فَمَاتَ مِنْهَا هَلْ لِلْأَوْلِيَاءِ أَنْ يُطَالِبُوا بِدَمِهِ أَمْ لَا؟ فَقَالَ مَالِكٌ: لَهُمْ ذَلِكَ إِلَّا أَنْ يَقُولَ عَفَوْتُ عَنِ الْجِرَاحَاتِ وَعَمَّا تَئُولُ إِلَيْهِ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ، وَمُحَمَّدٌ: إِذَا عَفَا عَنِ الْجِرَاحَةِ وَمَاتَ فَلَا حَقَّ لَهُمْ، وَالْعَفْوُ عَنِ الْجِرَاحَاتِ عَفْوٌ عَنِ الدَّمِ، وَقَالَ قَوْمٌ: بَلْ تَلْزَمُهُمُ الدِّيَةُ إِذَا عَفَا عَنِ الْجِرَاحَاتِ مُطْلَقًا، وَهَؤُلَاءِ اخْتَلَفُوا:

فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: تَلْزَمُ الْجَارِحَ الدِّيَةُ كُلُّهَا، وَاخْتَارَهُ الْمُزَنِيُّ مِنْ أَقْوَالِ الشَّافِعِيِّ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: يَلْزَمُ مِنَ الدِّيَةِ مَا بَقِيَ مِنْهَا بَعْدَ إِسْقَاطِ دِيَةِ الْجُرْحِ الَّذِي عَفَا عَنْهُ، وَهُوَ قَوْلُ الثَّوْرِيِّ.

وَأَمَّا مَنْ يَرَى أَنَّهُ لَا يَعْفُو عَنِ الدَّمِ فَلَيْسَ يُتَصَوَّرُ مَعَهُ خِلَافٌ فِي أَنَّهُ لَا يُسْقِطُ ذَلِكَ طَلَبَ الْوَلِيِّ الدِّيَةَ ; لِأَنَّهُ إِذَا كَانَ عَفْوُهُ عَنِ الدَّمِ لَا يُسْقِطُ حَقَّ الْوَلِيِّ، فَأَحْرَى أَنْ لَا يُسْقِطَ عَفْوَهُ عَنِ الْجُرْحِ.

وَاخْتَلَفُوا فِي الْقَاتِلِ عَمْدًا يُعْفَى عَنْهُ، هَلْ يَبْقَى لِلسُّلْطَانِ فِيهِ حَقٌّ أَمْ لَا؟ فَقَالَ مَالِكٌ وَاللَّيْثُ: إِنَّهُ يُجْلَدُ مِائَةً وَيُسْجَنُ سَنَةً، وَبِهِ قَالَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ، وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عُمَرَ، وَقَالَتْ طَائِفَةٌ (الشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ، وَإِسْحَاقُ، وَأَبُو ثَوْرٍ) : لَا يَجِبُ عَلَيْهِ ذَلِكَ، وَقَالَ أَبُو ثَوْرٍ: إِلَّا أَنْ يَكُونَ يُعْرَفُ بِالشَّرِّ فَيُؤَدِّبُهُ الْإِمَامُ عَلَى قَدْرِ مَا يَرَى.

وَلَا عُمْدَةَ لِلطَّائِفَةِ الْأُولَى إِلَّا أَثَرٌ ضَعِيفٌ. وَعُمْدَةُ الطَّائِفَةِ الثَّانِيَةِ ظَاهِرُ الشَّرْعِ وَأَنَّ التَّحْدِيدَ فِي ذَلِكَ لَا يَكُونُ إِلَّا بِتَوْقِيفٍ، وَلَا تَوْقِيفَ ثَابِتٌ فِي ذَلِكَ.

<<  <  ج: ص:  >  >>