للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

وَإِنَّمَا تَجِبُ الدِّيَةُ فِي مَالِهِ فِي الْعَمْدِ؛ لِأَنَّ الْعَوَاقِلَ لَا تَعْقِلُ الْعَمْدَ؛ وَفِي الْخَطَإِ لِأَنَّهُ لَا قُدْرَةَ لَهُمْ عَلَى الصِّيَانَةِ مَعَ تَبَايُنِ الدَّارَيْنِ وَالْوُجُوبُ عَلَيْهِمْ عَلَى اعْتِبَارِ تَرْكِهَا.

(وَإِنْ كَانَا أَسِيرَيْنِ فَقَتَلَ أَحَدُهُمَا صَاحِبَهُ أَوْ قَتَلَ مُسْلِمٌ تَاجِرٌ أَسِيرًا) فَلَا شَيْءَ عَلَى الْقَاتِلِ إلَّا الْكَفَّارَةُ فِي الْخَطَإِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَقَالَا: (فِي الْأَسِيرَيْنِ الدِّيَةُ فِي الْخَطَإِ وَالْعَمْدِ)؛ لِأَنَّ الْعِصْمَةَ لَا تَبْطُلُ بِعَارِضِ الْأَسْرِ كَمَا لَا تَبْطُلْ بِعَارِضِ الِاسْتِئْمَانِ عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ، وَامْتِنَاعُ الْقِصَاصِ؛ لِعَدَمِ الْمَنَعَةِ وَيَجِبُ الدِّيَةُ فِي مَالِهِ لِمَا قُلْنَا. وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ بِالْأَسْرِ صَارَ تَبَعًا لَهُمْ؛ لِصَيْرُورَتِهِ مَقْهُورًا فِي أَيْدِيهِمْ، وَلِهَذَا يَصِيرُ مُقِيمًا بِإِقَامَتِهِمْ وَمُسَافِرًا بِسَفَرِهِمْ فَيَبْطُلُ بِهِ الْإِحْرَازُ أَصْلًا وَصَارَ كَالْمُسْلِمِ الَّذِي لَمْ يُهَاجِرْ إلَيْنَا،

مِنْهُ، وَلَا يَحِلُّ لِوَلِيِّ الْمَقْتُولِ قَتْلُ الْقَاتِلِ إذَا قَدَرَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْقَتْلَ لَمْ يَنْعَقِدْ سَبَبًا مُوجِبًا لِلْقِصَاصِ وَهُوَ مُشْكِلٌ؛ لِأَنَّ كَوْنَ الْوِلَايَةِ قَاصِرَةً وَقْتَ السَّبَبِ لَا تَمْنَعُ مِنْ الْقَضَاءِ عِنْدَ الطَّلَبِ إذَا كَانَتْ ثَابِتَةً عِنْدَهُ، كَمَا لَوْ رَفَعَ إلَى قَاضٍ مُطَالَبَةً بِثَمَنِ مَبِيعٍ صَدَرَ الْبَيْعُ فِيهِ قَبْلَ وِلَايَةِ الْقَاضِي فَإِنَّ وِلَايَتَهُ مُنْعَدِمَةٌ عِنْدَ السَّبَبِ، وَعَلَيْهِ أَنْ يَقْضِيَ بِالثَّمَنِ عِنْدَ الْمُرَافَعَةِ؛ لِأَنَّ الْعِصْمَةَ الْمُؤْثِمَةَ بِالْإِسْلَامِ قَائِمَةٌ، وَالْقَتْلُ الْعَمْدُ الْعُدْوَانُ ثَابِتٌ وَهُوَ السَّبَبُ، وَالْمَانِعُ وَهُوَ اسْتِيفَاءُ الْإِمَامِ مُنْتَفٍ لِمَا ذُكِرَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ الْإِقَامَةَ يَنْفَرِدُ بِهَا الْوَلِيُّ فَمَنْعُهُ مِنْهُ خِلَافُ الدَّلِيلِ.

فَالْأَقْرَبُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ثُبُوتِ الشُّبْهَةِ الْمُسْقِطَةِ لِلْقِصَاصِ بِتَكْثِيرِ سَوَادِهِمْ مِنْ وَجْهٍ عَلَى مَا فِيهِ، إذْ نَمْنَعُ كَوْنَ ذَلِكَ شُبْهَةً تُوجِبُ السُّقُوطَ، أَوْ أَنَّ دَارَ الْحَرْبِ دَارُ إبَاحَةٍ فَالْكَوْنُ فِيهَا شُبْهَةٌ دَارِئَةٌ. وَقَدْ يُقَالُ: إنْ قُلْتُمْ إنَّهَا دَارُ إبَاحَةِ لِلْقَتْلِ مُطْلَقًا فَمَمْنُوعٌ أَوْ قَتْلُ الْكَافِرِ فِيهِ فَلَا يُفِيدُ. وَيُجَابُ بِأَنَّ كَوْنَهَا دَارَ إبَاحَةٍ لَهُ فِي الْجُمْلَةِ كَافٍ؛ أَلَا تَرَى أَنَّ مَنْ قَتَلَ رَجُلًا قَالَ لَهُ اُقْتُلْنِي لَا قِصَاصَ عَلَيْهِ، مَعَ أَنَّ إبَاحَةَ الشَّرْعِ قَتْلَهُ لَمْ تَحْصُلْ بِقَوْلِهِ ذَلِكَ بَلْ إبَاحَةٌ مِنْ جِهَتِهِ وَقَدْ جُعِلَ ذَلِكَ مَانِعًا إلَّا أَنْ نَمْنَعَ عَدَمَ الْقِصَاصِ فِي قَوْلِهِ اُقْتُلْنِي. فَإِنْ قِيلَ: مَا ذَكَرْتُمْ مُخَالِفٌ لِإِطْلَاقِ قَوْله تَعَالَى ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ﴾ وَ ﴿النَّفْسَ بِالنَّفْسِ﴾، فَالْجَوَابُ أَنَّهُ عَامٌّ مَخْصُوصٌ بِالْقَتْلِ خَطَأً، فَإِنَّهُ قَتْلٌ وَلَيْسَ يَجِبُ فِيهِ قِصَاصٌ، وَنَحْوُ ذَلِكَ فَجَازَ تَخْصِيصُهُ بِالْمَعْنَى أَيْضًا. قَالَ: (وَإِنَّمَا تَجِبُ الدِّيَةُ فِي مَالِهِ فِي الْعَمْدِ؛ لِأَنَّ الْعَوَاقِلَ لَا تَعْقِلُ الْعَمْدَ، وَفِي الْخَطَأِ) إنَّمَا تَجِبُ أَيْضًا فِي مَالِهِ؛ لِأَنَّ وُجُوبَهَا عَلَى الْعَاقِلَةِ بِتَرْكِهِمْ وَتَقْصِيرِهِمْ فِي حِفْظِ الْقَاتِلِ وَمَنْعِهِ مِنْ ذَلِكَ، وَلَا تَقْصِيرَ مِنْهُمْ فِي ذَلِكَ إذَا كَانَ فِي دَارِ الْحَرْبِ.

(قَوْلُهُ: وَإِنْ كَانَا) أَيْ الْمُسْلِمَانِ (أَسِيرَيْنِ فَقَتَلَ أَحَدُهُمَا صَاحِبَهُ أَوْ قَتَلَ مُسْلِمٌ تَاجِرٌ أَسِيرًا فَلَا شَيْءَ عَلَى الْقَاتِلِ) مِنْ أَحْكَامِ الدُّنْيَا (إلَّا الْكَفَّارَةَ فِي الْخَطَإِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ)، وَإِنَّمَا عَلَيْهِ عِقَابُ الْآخِرَةِ فِي الْعَمْدِ (وَقَالَا: فِي الْأَسِيرَيْنِ الدِّيَةُ فِي الْخَطَإِ وَالْعَمْدِ؛ لِأَنَّ الْعِصْمَةَ لَا تَبْطُلُ بِعَارِضِ الْأَسْرِ كَمَا لَا تَبْطُلُ بِالِاسْتِئْمَانِ عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ) يَعْنِي مِنْ قَوْلِهِ؛ لِأَنَّ الْعِصْمَةَ الثَّابِتَةَ بِالْإِحْرَازِ بِدَارِ الْإِسْلَامِ لَا تَبْطُلُ بِعَارِضِ الدُّخُولِ بِالْأَمَانِ فَكَانَ الْأَسِيرَانِ كَالْمُسْتَأْمَنَيْنِ (وَ) أَمَّا (امْتِنَاعُ الْقِصَاصِ فَلِعَدَمِ الْمَنَعَةِ) كَمَا ذَكَرْنَا (وَتَجِبُ الدِّيَةُ فِي مَالِهِ؛ لِمَا قُلْنَا) أَنَّ الْعَوَاقِلَ لَا تَعْقِلُ الْعَمْدَ.

هَذَا وَقِيَاسُ مَا نَقَلَ قَاضِي خَانْ عَنْهُمَا فِي الْمُسْلِمَيْنِ الْمُسْتَأْمَنِينَ مِنْ وُجُوبِ الْقِصَاصِ فِي الْعَمْدِ أَنْ يَقُولَا بِهِ فِي الْأَسِيرَيْنِ؛ لِأَنَّ الْوَجْهَ يَعُمُّهُمَا (وَلِأَبِي حَنِيفَةَ) وَهُوَ الْفَرْقُ بَيْنَ الْأَسِيرَيْنِ وَالْمُسْتَأْمَنَيْنِ (أَنَّ بِالْأَسْرِ صَارَ تَبَعًا لَهُمْ لِصَيْرُورَتِهِ مَقْصُورًا فِي أَيْدِيهِمْ حَتَّى يَصِيرَ مُقِيمًا بِإِقَامَتِهِمْ وَمُسَافِرًا بِسَفَرِهِمْ فَيَبْطُلُ بِهِ الْإِحْرَازُ أَصْلًا)؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ غَيْرُ مَعْصُومٍ فَكَذَا تَبِعَهُ (وَصَارَ كَالْمُسْلِمِ الَّذِي لَمْ يُهَاجِرْ إلَيْنَا) فِي سُقُوطِ عِصْمَتِهِ الدُّنْيَوِيَّةِ بِجَامِعِ كَوْنِ كُلٍّ مِنْهُمَا مَقْهُورًا فِي أَيْدِيهِمْ

<<  <  ج: ص:  >  >>