للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

[السؤال (١٢١) : فضيلة الشيخ، ما هي المصارف التي يجب أن تصرف فيها الزكاة؟]

الجواب: المصارف التي يجب أن تصرف فيها الزكاة ثمانية بينها الله تعالى بياناً شافياً كافياً، وأخبر عز وجل أن ذلك فريضة، وأنه مبنى على العلم والحكمة، فقال جل ذكره: (إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ) (التوبة: ٦٠) ، قال الله تعالى بعد (فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) (التوبة: ٦٠) .

فهؤلاء أصناف أهل الزكاة الذين تدفع إليهم، وهم ثمانية كالتالي:

الفقراء والمساكين: وهؤلاء يعطون من الزكاة لدفع ضرورتهم وحاجتهم.

والفرق بين الفقراء والمساكين: أن الفقراء أشد حاجة، لا يحد الواحد منهم ما يكفيه وعائلته لنصف سنة، والمساكين أعلى حالاً من الفقراء، لأنهم يجدون نصف الكفاية فأكثر دون كمال الكفاية. هؤلاء يعطون لحاجتهم، ولكن كيف نقدر الحاجة؟ قال العلماء: يعطون لحاجتهم ما يكفيهم وعائلتهم لمدة سنة، ويحتمل أن يعطون ما يكونون به أغنياء، لكن الذين قدروا ذلك بسنة قالوا: لأن السنة إذا دارت وجبت الزكاة في الأموال، فكما أن الحول هو تقدير الزمن الذي تجب فيه الزكاة، فكذلك ينبغي أن يكون الحول هو تقدير الزمن الذي تدفع فيه حاجة الفقراء والمساكين الذين هم أهل الزكاة. وهذا قول حسن جيد، أي أننا نعطي الفقير والمسكين ما يكفيه وعائلته لمدة عام كامل، سواء أعطيناه أعياناً من أطعمة وألبسة، أو أعطيناه نقوداً يشتري بها هو ما يناسبه، أو أعطيناه صنعة إذا كان يحسن الصنعة، يعني آلة يصنع بها إذا كان يحسن الصنعة، كخياط ونجار، وحداد ونحوه، المهم أن نعطيه ما يكفيه وعائلته لمدة سنة.

الثالث: العاملون عليها: أي الذين لهم ولاية عليها من قبل ولي الأمر، ولهذا قال: " والعاملين عليها" ولم يقل: العاملون فيها، إشارة إلى أن لهم نوع ولاية، وهم جباتها الذين يجبونها من أهلها، وقسامها الذين يقسمونها في أهلها، وكتابها ونحوهم، فهؤلاء عاملون عليها يعطون من الزكاة، ولكن: كم يعطون؟ ننظر: هم عاملون عليها، فهم مستحقون بوصف العمالة، ومن استحق بوصف أعطي بقدر ذلك الوصف، وعليه فيعطون من الزكاة بقدر عمالتهم فيها، سواء كانوا أغنياء أم فقراء، لأنهم يأخذون الزكاة لعملهم لا لحاجتهم، وعلى هذا فيعطون ما يقتضيه العمل من الزكاة، فإن قدر أن العاملين عليها فقراء، فإنهم يعطون بالعمالة ويعطون بالفقر كذلك، فيعطون ما يكفيهم لمدة سنة لفقرهم.

فهؤلاء يأخذون لعمالتهم أيضاً، لأنهم استحقوا الصدقة أو الزكاة بوصفين: العمالة عليها، والفقر، فيعطون بكلا الوصفين، ولكن إذا أعطيناهم للعمالة فيبقون أغنياء بقدر ما أخذوا من العمالة، فنكمل لهم المؤونة لمدة سنة، مثال ذلك: إذا قدرنا أنه يكفيهم لمدة سنة عشرة آلاف ريال، وأننا إذا أعطيناهم لفقرهم أخذوا عشرة آلاف ريال، وأن نصيبهم من العمالة ألفا ريال، فعلى هذا نعطيهم ألفي ريال للعمالة، ونعطيهم ثمانية آلاف ريال للفقر، هذا وجه قولنا: يعطون كفايتهم لمدة سنة، لأنهم إذا أخذوا بالعمالة صاروا لا يحتاجون إلا ما زاد على استحقاقهم العمالة لمدة سنة.

الرابع: المؤلفة قلوبهم: وهم الذين يعطون لتأليفهم على الإسلام، إما كافر يرجى إسلامه، وإما مسلم نعطيه لتقوية الإيمان في قلبه، وإما شرير نعطيه لدفع شره عن المسلمين، أو نحو ذلك ممن يكون في تأليفه مصلحة للمسلمين، ولكن هل يشترط في ذلك أن يكون سيداً مطاعاً في قومه حتى يكون في تأليفه مصلحة عامة؟ أو يجوز أن يعطى لتأليفه ولو لمصلحة شخصية كرجل دخل في الإسلام حديثاً يحتاج إلى تأليفه وتقوية إيمانه بإعطائه؟

هذا محل خلاف بين العلماء، والراجح عندي أنه لا بأس أن يعطى لتأليفه على الإسلام بتقوية إيمانه، وإن كان يعطى بصفة شخصية وليس سيداً في قومه لعموم قوله تعالى: (وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ) ولأنه إذا جاز أن نعطي الفقير لحاجته البدنية الجسمية، فإعطاؤنا هذا الضعيف الإيمان لتقويه إيمانه من باب أولى، لأن تقوية الإيمان بالنسبة لشخص أهم من غذاء الجسد.

هؤلاء الأربعة يعطون الزكاة على سبيل التمليك، ويملكونها ملكاً تاماً، حتى لو زال الوصف منهم في أثناء الحول لم يلزمهم رد الزكاة بل تبقى حلالاً لهم، لأن الله عبر عن استحقاقهم باللام، فقال: (إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ) (التوبة: ٦٠) ، فأتى باللام، وفائدة ذلك أن الفقير لو استغنى في أثناء الحول فإنه لا يلزمه رد الزكاة، مثل: لو أعطيناه عشرة آلاف لفقره وهي تكفيه لمدة سنة، ثم إن الله تعالى أغناه في أثناء الحول باكتساب مال أو موت قريب له يرثه، أو ما أشبه ذلك، فإنه لا يلزمه رد ما بقي من المال الذي أخذه من الزكاة لأنه ملكه.

أما الخامس من أهل الزكاة: فهم الرقاب، لقوله تعالى: (وَفِي الرِّقَابِ) . والرقاب فسرها العلماء بثلاثة أشياء: الأول: مكاتب اشترى نفسه من سيده بدراهم مؤجلة في ذمته، فيعطى ما يوفي به سيده، والثاني: رقيق مملوك اشتري من الزكاة ليعتق، والثالث: أسير مسلم أسره الكفار، فيعطى الكفار من الزكاة لفكهم هذا الأسير، ومثله أيضاً الاختطاف، فلو اختطف المسلمَ أحد من المسلمين أو الكفار فلا بأس أن يفدى هذا المختطِف بشيء من الزكاة، لأن العلة واحدة وهي فكاك المسلم من الأسر، وهذا إذا لم يمكننا أن نرغم المختطف على فكاكه بدون بذل المال، إذا كان المختطِف من المسلمين.

والصنف السادس من أهل الزكاة: الغارمين: الغارم هو المدين، وقسم العلماء -رحمهم الله - الغرم إلى قسمين: الأول: غرم لإصلاح ذات البين، وغرم لسداد الحاجة، أما الغرم لإصلاح ذات البين فمثلوا له بأن يقع بين قبيلتين تشاحن وتشاجر أو حروب، فيأتي رجل من أهل الخير والجاه واشرف والسؤدد ويصلح بين هاتين القبيلتين بدراهم يتحملها في ذمته، فإننا نعطي هذا الرجل المصلح الدراهم التي تحملها من الزكاة، جزاء له على هذا العمل الجليل الذي قام به، والذي فيه إزالة الشحناء والعداوة بين المؤمنين وحقن دماء الناس، وهذا يعطى سواء كان غنياً أم فقيراً، لأننا لسنا نعطيه لسد حاجته، ولكننا نعطيه لما قام به من المصلحة العامة.

أما الثاني فهو الغارم لنفسه، الذي استدان لنفسه باستقراض شيء ليدفعه في حاجته، أو بشراء شيء يحتاجه، يشتريه في ذمته وليس عنه مال، فهذا نوفي دينه من الزكاة بشرط أن يكون فقيراً ولو لم يعلم بذلك، وعليه فهل الأفضل أن نعطي هذا المدين من الزكاة ليوفي دينه؟ أو أن نذهب نحن إلى دائنه ونوفي عنه؟ هذا يختلف، فإن كان هذا الرجل المدين حريصاً على وفاء دينه وإبراء ذمته، وهو أمين فيما يعطى لوفاء الدين، فإننا نعطيه هو بنفسه يقضي دينه، لأن هذا استر له وأبعد عن تخجيله أمام الناس الذين يطلبونه.

أما إذا كان المدين رجلاً مبذراً يفسد الأموال، ولو أعطيناه مالاً ليقضي دينه ذهب يشتري به أشياء لا ضرورة لها، فإننا لا نعطيه وإنما نذهب نحن إلى دائنه ونقول له: ما دين فلان لك؟ ثم نعطيه هذا الدين أو بعضه، حسب ما يتيسر.

وهل يقضى منها -أي من الزكاة -دين على ميت لم يخلف تركة؟ ذكر ابن عبد البر وأبو عبيدة أنه لا يقضى منها دين على الميت بالإجماع، ولكن الواقع أن المسألة فيها خلاف ولكن أكثر العلماء يقولون: إنه لا يقضى منها دين على ميت، وأن الميت انتقل إلى الآخرة ولا يلحقه من الذل والهوان بالدين الذي عليه ما يلحق الأحياء، ولأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يقضي ديون الأموات من الزكاة، بل كان يقضيها عليه الصلاة والسلام من أموال الفيء حين فتح الله عليه، وهذا يدل على أنه لا يصح قضاء دين الميت من الزكاة، ويقال: الميت إن كان قد أخذ أموال الناس يريد أداءها فإن الله تعالى يؤدي عنه بفضله وكرمه، وإن كان قد أخذها يريد إتلافها فهو الذي جنى على نفسه، ويبقى الدين في ذمته يستوفى يوم القيامة، وعندي أن هذا أقرب من القول بأنه يقضى منها الدين على الميت.

وقد يقال: يفرق بين ما إذا كان الأحياء يحتاجون إلى الزكاة، لفقر أو غرم أو جهاد أو غير ذلك، وما إذا كان الأحياء لا يحتاجون إليها، ففي الحال لا التي يحتاج إليها الأحياء يقدم الأحياء على الأموات، وفي الحال التي لا يحتاج إليها الأحياء لا حرج أن نقضي ديون الأموات الذين ماتوا ولم يخلفوا مالاً، ولعل هذا قول يكون وسطاً بين القولين.

ثم الصنف السابع: في سبيل الله، وسبيل الله هنا المراد بها الجهاد في سبيل الله لا غير، ولا يصح أن يراد بها جميع سبل الخير، لأنه لو كان المراد بها جميع سبل الخير لم يكن للحصر فائدة في قوله: (إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ) الآية. إذ يكون الحصر عديم التأثير، فالمراد بسبيل الله هو الجهاد في سبيل الله، فيعطى المقاتلون في سبيل الله الذين يظهر من حالهم أنهم يقاتلون لتكون كلمة الله هي العليا، يعطون من الزكاة ما يحتاجون إليه من النفقات والأسلحة وغير ذلك. ويجوز أن تشترى الأسلحة لهم من الزكاة ليقاتلوا بها، ولكن لابد أن يكون القتال في سبيل الله.

والقتال في سبيل الله بينه الرسول صلى الله عليه وسلم بميزان عدل من قسط حين سئل عن الرجل يقاتل حمية، ويقاتل شجاعة، ويقاتل ليرى مكانه، أي ذلك في سبيل الله؟ قال: " من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله" (١) ، فالرجل المقاتل حمية لوطنه أو قوميته أو غير ذلك من أنواع الحميات ليس يقاتل في سبيل الله، فلا يستحق ما يستحقه المقاتل في سبيل الله، لا من الأمور المادية الدنيوية ولا من أمور الآخرة، والرجل الذي يقاتل شجاعة أي أنه يحب القتال لكونه شجاعاً، والمتصف بصفة غالباً يحب أن يقوم بها على أي حال كانت، هو أيضاً ليس يقاتل في سبيل الله، والمقاتل ليرى مكانه، يقاتل رياء وسمعة، ليس من المقاتلين في سبيل الله، وكل من لا يقاتل في سبيل الله فإنه لا يستحق من الزكاة، لأن الله تعالى يقول: (وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ) .

والذي يقاتل في سبيل الله هو الذي يقاتل لتكون كلمة الله هي العليا، قال أهل العلم: ومن سبيل الله: الرجل يتفرغ لطلب العلم الشرعي، فيعطى من الزكاة ما يحتاج إليه من نفقة، من كسوة وطعام وشراب ومسكن وكتب علم يحتاجها، لأن العلم الشرعي نوع من الجهاد في سبيل الله، بل قال الإمام أحمد رحمه الله: " العلم لا يعدله شيء لمن صحت نيته". فالعلم هو أصل الشرع كله، ولا شرع إلا بعلم، والله سبحانه وتعالى أنزل الكتاب ليقوم الناس بالقسط ويتعلموا أحكام شريعته وما يلزم من عقيدة وقول وفعل، أما الجهاد في سبيل الله فنعم، هو من أشرف الأعمال، بل هو ذروة سنام الإسلام، ولا شك في فضله، لكن العلم له شأن كبير في الإسلام، فدخوله في الجهاد في سبيل الله دخول واضح لا إشكال فيه، فإذا جاءنا رجل أهل للعلم، وقال: أنا إن ذهبت اكتسب لنفسي وأهلي لم أتمكن من طلب العلم، وإن تفرغت لطلب العلم فإنني أحصل فيه، ولكن لا أجد ما يدفع حاجتي، فإننا نقول له: تفرغ لطلب العلم ونعطيه ما يدفع به حاجته من الزكاة.

الثامن: بقي من أصناف أهل الزكاة صنف واحد وهو ابن السبيل، وابن السبيل هو المسافر الذي انقطع به السفر ونفدت نفقته، فإنه يعطى من الزكاة ما يوصله إلى بدله وإن كان في بلده غنياً، لأنه محتاج، ولا نقول له في هذه الحال: يلزمك أن تستقرض وتوفي، لأننا في هذه الحال نلزم ذمته ديناً، ولكن لو اختار هو أن يستقرض ولا يأخذ من الزكاة فالأمر إليه، فإذا وجدنا شخصاً مسافراً من مكة إلى المدينة، وفي أثناء السفر ضاعت نفقته ولم يبق معه شيء، وهو غني في المدينة، فإننا نعطيه ما يوصله إلى المدينة فقط، لأن هذه هي حاجته، ولا نعطيه أكثر.

وإذا كنا قد عرفنا أصناف أهل الزكاة الذين تدفع إليهم، فإن ما سوى ذلك من المصالح العامة أو الخاصة لا تدفع فيه الزكاة، وعلى هذا فلا تدفع الزكاة في بناء المساجد، ولا في إصلاح الطرق، ولا في بناء المكاتب وشبه ذلك، لأن الله عز وجل لما ذكر أصناف أهل الزكاة قال: (فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ) . يعني أن هذا التقسيم جاء فريضة من الله عز وجل: (وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) .

نقول: هل هؤلاء المستحقون يجب أن يعطى كل واحد منها، أي كل صنف، لأن الواو تقتضي الجمع؟

فالجواب: أن ذلك لا يجب، لقول النبي صلى الله عليه وسلم لمعاذ بن جبل حين بعثه إلى اليمن: "أعلمهم أن الله افترض عليهم صدقة في أموالهم، تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم" (٢) . فلم يذكر النبي صلى الله عليه وسلم إلا صنفاً واحداً، وهذا يدل على أن الآية يبين الله تعالى فيها جهة الاستحقاق، وليس المراد أنه يجب أن تعمم هذه الأصناف.

ولكن إذا قيل: أيها أولى أن يصرف فيه الزكاة؟

قلنا: إن الأولى ما كانت الحاجة إليه أشد، لأن كل هؤلاء استحقوا بوصف، فمن كان أشد إلحاحاً وحاجة فهو أولى، والغالب أن الأشد هم الفقراء والمساكين، ولهذا بدأ الله تعالى بهم فقال: (إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ) .

حكم صرف الزكاة للأقارب الفقراء


(١) أخرجه البخاري، كتاب العلم، باب من سأل وهو قائم عالماً جالساً، رقم (١٢٣) ، ومسلم، كتاب الجهاد، باب من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله، رقم (١٩٠٤) .
(٢) تقدم تخريجه ص (١٠٨) .

<<  <   >  >>