للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

جُرْحٍ، أَوْ كَلْمٍ، أَوْ دَمٍ يَفُوحُ مِسْكًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَمْ يُصَلِّ عَلَيْهِمْ» وَالْحِكْمَةُ فِي ذَلِكَ إبْقَاءُ أَثَرِ الشَّهَادَةِ عَلَيْهِمْ وَالتَّعْظِيمُ لَهُمْ بِاسْتِغْنَائِهِمْ عَنْ دُعَاءِ الْقَوْمِ مَعَ التَّخْفِيفِ عَلَيْهِمْ قَالَ فِي الْمَجْمُوعِ: وَأَمَّا خَبَرُ «أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خَرَجَ فَصَلَّى عَلَى قَتْلَى أُحُدٍ صَلَاتَهُ عَلَى الْمَيِّتِ» وَفِي رِوَايَةٍ لِلْبُخَارِيِّ «بَعْدَ ثَمَانِ سِنِينَ» فَالْمُرَادُ دَعَا لَهُمْ كَدُعَائِهِ لِلْمَيِّتِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى {وَصَلِّ عَلَيْهِمْ} [التوبة: ١٠٣] وَالْإِجْمَاعُ يَدُلُّ لَهُ؛ لِأَنَّهُ لَا يُصَلَّى عَلَيْهِ عِنْدَنَا وَعِنْدَ الْمُخَالِفِ لَا يُصَلَّى عَلَى الْقَبْرِ بَعْدَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فَإِنْ قِيلَ: خَبَرُ جَابِرٍ لَا يُحْتَجُّ بِهِ؛ لِأَنَّهُ نَفْيٌ وَشَهَادَةُ النَّفْيِ مَرْدُودَةٌ مَعَ مَا عَارَضَهَا فِي خَبَرِ الْإِثْبَاتِ فَأَجَابَ أَصْحَابُنَا بِأَنَّ شَهَادَةَ النَّفْيِ إنَّمَا تُرَدُّ إذَا لَمْ يُحِطْ بِهَا عِلْمُ الشَّاهِدِ وَلَمْ تَكُنْ مَحْصُورَةً، وَإِلَّا فَتُقْبَلُ بِالِاتِّفَاقِ.

وَهَذِهِ قَضِيَّةٌ مُعَيَّنَةٌ أَحَاطَ بِهَا جَابِرٌ وَغَيْرُهُ عِلْمًا وَأَمَّا خَبَرُ الْإِثْبَاتِ فَقَدْ أَجَبْنَا عَنْهُ وَإِنَّمَا سَقَطَ غُسْلُ الْجُنُبِ وَنَحْوِهِ بِالشَّهَادَةِ لِأَنَّ «حَنْظَلَةَ بْنَ الرَّاهِبِ قُتِلَ يَوْمَ أُحُدٍ وَهُوَ جُنُبٌ وَلَمْ يُغَسِّلْهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَالَ: رَأَيْتُ الْمَلَائِكَةَ تُغَسِّلُهُ» رَوَاهُ ابْنُ حِبَّانَ وَالْحَاكِمُ فَلَوْ كَانَ وَاجِبًا لَمْ يَسْقُطْ إلَّا بِفِعْلِنَا؛ وَلِأَنَّهُ طَهُرَ عَنْ حَدَثِ فَسَقَطَ بِالشَّهَادَةِ كَغُسْلِ الْمَوْتِ وَفِي مَعْنَى مَوْتِهِ فِي الْقِتَالِ مَوْتُهُ بَعْدَهُ إذَا انْقَضَى وَلَمْ يَبْقَ فِيهِ حَيَاةٌ مُسْتَقِرَّةٌ بِخِلَافِ مِنْ بَقِيَتْ فِيهِ وَإِنْ قُطِعَ بِمَوْتِهِ بِذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ عَاشَ بَعْدَهُ فَأَشْبَهَ مَا لَوْ مَاتَ بِغَيْرِهِ وَخَرَجَ بِذَلِكَ مَنْ قَتَلَهُ كَافِرٌ فِي غَيْرِ الْقِتَالِ وَلَوْ فِي أَسْرِهِ وَبِالْحَلَالِ - الْمَزِيدِ عَلَى الْحَاوِي - الْحَرَامُ كَقِتَالِ الْمُسْلِمِ ذِمِّيًّا - وَبِالْكَافِرِ - غَيْرُهُ كَالْبَاغِي وَالْمُحَارِبِ وَبِقَوْلِهِ: بِهِ مَنْ مَاتَ فِي الْقِتَالِ لَا بِهِ كَأَنْ مَاتَ فَجْأَةً، أَوْ بِمَرَضٍ، أَوْ بَطْنٍ، أَوْ غَرَقٍ، أَوْ طَاعُونٍ، أَوْ نَحْوِهَا لِأَنَّ الْأَصْلَ وُجُوبُ الْغُسْلِ وَالصَّلَاةِ وَإِنَّمَا خَالَفْنَاهُ فِي الْمَيِّتِ بِسَبَبِ الْقِتَالِ تَعْظِيمًا لِأَمْرِهِ وَتَرْغِيبًا فِيهِ وَاعْلَمْ أَنَّ الشُّهَدَاءَ ثَلَاثَةُ أَقْسَامٍ: شَهِيدٌ فِي حُكْمِ الدُّنْيَا بِمَعْنَى أَنَّهُ لَا يُغَسَّلُ وَلَا يُصَلَّى عَلَيْهِ وَفِي حُكْمِ الْآخِرَةِ بِمَعْنَى أَنَّ لَهُ ثَوَابًا خَاصًّا وَهَذَا مَنْ قُتِلَ فِي حَرْبِ الْكُفَّارِ، وَقَدْ قَاتَلَ لِتَكُونَ كَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَشَهِيدٌ فِي الْآخِرَةِ دُونَ الدُّنْيَا وَهُوَ الْمَبْطُونُ وَالْغَرِيقُ وَنَحْوُهُمَا وَشَهِيدٌ فِي الدُّنْيَا دُونَ الْآخِرَةِ وَهُوَ مَنْ قُتِلَ فِي حَرْبِ الْكُفَّارِ، وَقَدْ غَلَّ مِنْ الْغَنِيمَةِ أَوْ قُتِلَ مُدْبِرًا، أَوْ قَاتَلَ رِيَاءً وَنَحْوَهُ.

(وَلْيُزَلْ خَبَثْ لَا مَا بِأَسْبَابِ شَهَادَةٍ حَدَثْ) أَيْ وَيُزَالُ عَنْهُ وُجُوبًا خَبَثٌ حَصَلَ بِغَيْرِ سَبَبِ الشَّهَادَةِ وَإِنْ أَدَّى إلَى إزَالَةِ أَثَرِهَا؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَثَرِ الْعِبَادَةِ بِخِلَافِ مَا كَانَ بِسَبَبِهَا مِنْ الدَّمِ فَيَحْرُمُ إزَالَتُهُ لِإِطْلَاقِ النَّهْيِ عَنْ غُسْلِ الشَّهِيدِ؛ وَلِأَنَّهُ أَثَرُ عِبَادَةٍ.

(وَكُفِّنَ الشَّهِيدُ فِي ثِيَابِهِ) الْمُعْتَادُ لُبْسُهَا غَالِبًا (مُلَطَّخَاتٍ) بِالدَّمِ لِخَبَرِ أَبِي دَاوُد بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ عَنْ جَابِرٍ قَالَ «رُمِيَ رَجُلٌ بِسَهْمٍ فِي صَدْرِهِ، أَوْ حَلْقِهِ فَمَاتَ فَأُدْرِجَ فِي ثِيَابِهِ كَمَا هُوَ وَنَحْنُ مَعَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -» (قُلْتُ ذَا) أَيْ: تَكْفِينُهُ بِثِيَابِهِ الْمُلَطَّخَةِ بِالدَّمِ (أَوْلَى بِهِ) لِخَبَرِ أَبِي دَاوُد الْآتِي وَلَيْسَ بِوَاجِبٍ فَلِلْوَارِثِ إبْدَالُهَا كَسَائِرِ الْمَوْتَى، وَفَارَقَ الْغُسْلَ بِإِبْقَاءِ أَثَرِ الشَّهَادَةِ عَلَى الْبَدَنِ، وَالصَّلَاةَ عَلَيْهِ بِإِكْرَامِهِ وَالْإِشْعَارِ بِاسْتِغْنَائِهِ عَنْ الدُّعَاءِ (وَالْوَجْهُ فِي ثَوْبِ الْقِتَالِ النَّزْعُ) لَهُ نَدْبًا وَهُوَ (خُفٌّ وَجِلْدٌ وَفِرًا) جَمْعُ فَرْوَةٍ (وَدِرْعُ) وَنَحْوُهَا مِمَّا لَا يُعْتَادُ لُبْسُهُ غَالِبًا كَالْبَيْضَةِ وَالْجُبَّةِ الْمَحْشُوَّةِ كَسَائِرِ الْمَوْتَى وَفِي أَبِي دَاوُد «فِي قَتْلَى أُحُدٍ الْأَمْرُ بِنَزْعِ الْحَدِيدِ وَالْجُلُودِ وَدَفْنِهِمْ بِدِمَائِهِمْ وَثِيَابِهِمْ» .

[فَائِدَةٌ فِي سَبَبِ تَسْمِيَةِ مَنْ قُتِلَ قَبْلُ فِي حَرْبِ الْكُفَّارِ شَهِيدًا]

(فَائِدَةٌ) مِنْ الْمَجْمُوعِ اُخْتُلِفَ فِي سَبَبِ تَسْمِيَةِ مَنْ قُتِلَ قَبْلُ فِي حَرْبِ الْكُفَّارِ شَهِيدًا فَقَالَ الْأَزْهَرِيُّ: لِأَنَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ شَهِدَا لَهُ بِالْجَنَّةِ وَقَالَ النَّضْرُ بْنُ شُمَيْلٍ: الشَّهِيدُ الْحَيُّ فَسُمِّيَ بِهِ؛ لِأَنَّهُ حَيٌّ عِنْدَ رَبِّهِ وَقِيلَ: لِأَنَّ مَلَائِكَةَ الرَّحْمَةِ يَشْهَدُونَهُ فَيَقْبِضُونَ رُوحَهُ وَقِيلَ: لِأَنَّهُ مِمَّنْ يَشْهَدُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى الْأُمَمِ وَقِيلَ: لِأَنَّهُ شُهِدَ لَهُ بِالْإِيمَانِ وَخَاتِمَةُ الْخَيْرِ بِظَاهِرِ حَالِهِ وَقِيلَ: لِأَنَّ لَهُ شَاهِدًا بِقَتْلِهِ وَهُوَ دَمُهُ؛ لِأَنَّهُ يُبْعَثُ وَجُرْحُهُ يَنْفَجِرُ دَمًا وَقِيلَ: لِأَنَّ رُوحَهُ تَشْهَدُ دَارَ السَّلَامِ وَرُوحَ غَيْرِهِ لَا تَشْهَدُهَا إلَّا يَوْمَ

ــ

[حاشية العبادي]

وَأَهْلَ الذِّمَّةِ إذَا حَارَبُوا فِي دَارِنَا وَقَصَدُوا قَطْعَ الطَّرِيقِ عَلَيْنَا وَنَحْوَ ذَلِكَ وَلَمْ أَرَهُ نَصًّا نَاشِرِيٌّ.

(قَوْلُهُ: التَّخْفِيفِ عَلَيْهِمْ) لَعَلَّ الْمُرَادَ عَلَى الْقَوْمِ؛ لِأَنَّ الْغَالِبَ أَنَّ الْمُجَهِّزَ لَهُمْ الْمُقَاتِلُونَ وَقَدْ نَالَهُمْ تَعَبُ الْقِتَالِ. (قَوْلُهُ: لِأَنَّهُ لَا يُصَلَّى عَلَيْهِ عِنْدَنَا) أَيْ: عَلَى الشَّهِيدِ. (قَوْلُهُ: لَمْ يَسْقُطْ إلَخْ) قَدْ تَمْنَعُ هَذِهِ الْمُلَازَمَةُ. (قَوْلُهُ: كَالْبَاغِي) هَذَا لَا يُنَافِي مَا تَقَدَّمَ فِي الْهَامِشِ عَنْ النَّاشِرِيِّ فِيمَا لَوْ اسْتَعَانَ الْحَرْبِيُّونَ بِبُغَاتِنَا كَمَا قَدْ يُتَوَهَّمُ؛ لِأَنَّ الْمُرَادَ أَنَّ الْقِتَالَ لِلْبَاغِي وَمَا تَقَدَّمَ الْقِتَالُ لِلْكَافِرِ. (قَوْلُهُ: كَالْبَاغِي) ، نَعَمْ إنْ قَتَلَهُ كَافِرٌ اسْتَعَانَ بِهِ الْبُغَاةُ كَانَ شَهِيدًا كَمَا فِي الْقُوتِ وَالْخَادِمِ عَنْ الْقَفَّالِ.

(قَوْلُهُ: فَتَحْرُمُ إزَالَتُهُ بِالْغُسْلِ) لَا بِنَحْوِ عُودٍ؛ لِأَنَّهُ لَا يُزِيلُهُ بِالْكُلِّيَّةِ بَلْ يُزِيلُ عَيْنَهُ دُونَ أَثَرِهِ م ر. (قَوْلُهُ: مِنْ الدَّمِ) أَخْرَجَ غَيْرَهُ، وَإِنْ حَصَلَ بِسَبَبِ الشَّهَادَةُ.

(قَوْلُهُ: لِأَنَّهُ حَيٌّ عِنْدَ رَبِّهِ) أَيْ: وَلَا يَرُدُّ الْأَنْبِيَاءَ؛ لِأَنَّهُ لَا يَجِبُ اطِّرَادُ التَّسْمِيَةِ. (قَوْلُهُ: وَرُوحَ غَيْرِهِ إلَخْ) يُرَاجَعُ إطْلَاقُ الْغَيْرِ فَفِيهِ نَظَرٌ.

ــ

[حاشية الشربيني]

قَوْلُهُ: أَوْ كَلْمٍ) اُنْظُرْ عَطْفُ الْكَلْمِ عَلَى الْجُرْحِ هَلْ هُوَ تَفْسِيرِيٌّ كَمَا هُوَ الظَّاهِرُ وَعَلَيْهِ فَهُوَ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ عَطْفِ التَّفْسِيرِ بِأَوْ؟ . اهـ. مِنْ هَامِشِ شَرْحِ الرَّوْضِ وَفِي ع ش عَلَى م ر الظَّاهِرُ أَنَّهُ شَكٌّ مِنْ الرَّاوِي. اهـ. (قَوْلُهُ: بِاسْتِغْنَائِهِمْ) أَيْ: بِإِفَادَةِ ذَلِكَ بِعَدَمِ الصَّلَاةِ، أَمَّا الْأَنْبِيَاءُ وَالْمُرْسَلُونَ فَمَعْلُومٌ ذَلِكَ فِيهِمْ لَا حَاجَةَ إلَى التَّنْبِيهِ عَلَيْهِ وَالتَّعْظِيمِ بِهِ. (قَوْلُهُ: مَعَ مَا عَارَضَهَا) لَعَلَّهُ تَرَقٍّ إذْ لَا يَصِحُّ كَوْنُهُ قَيْدًا، تَدَبَّرْ. (قَوْلُهُ: وَلَمْ تَكُنْ) تَفْسِيرٌ لِعَدَمِ الْإِحَاطَةِ. (قَوْلُهُ: فَلَوْ كَانَ وَاجِبًا لَمْ يَسْقُطْ) ؛ لِأَنَّا تَعَبَّدْنَا بِفِعْلِهِ وَلَمْ يُوجَدْ بِخِلَافِ الْكَفَنِ فَإِنَّ مَقْصُودَهُ السَّتْرُ وَقَدْ حَصَلَ. اهـ. سم عَلَى الْمَنْهَجِ. (قَوْلُهُ: فَسَقَطَ بِالشَّهَادَةِ إلَخْ) يُفِيدُ وُجُوبَهُ فِي غَيْرِ الشَّهِيدِ وَهُوَ ضَعِيفٌ وَقَدْ تَقَدَّمَ. (قَوْلُهُ: ذِمِّيًّا) أَيْ: لَمْ يَبْتَدِئْنَا بِالْقِتَالِ، وَإِلَّا فَمَقْتُولُهُ شَهِيدٌ كَذَا بِهَامِشِ الْمَنْهَجِ

(قَوْلُهُ

<<  <  ج: ص:  >  >>