للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

مِنْ هَذَا الدُّعَاءِ، وَمَنْصِبُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مُنَزَّهٌ عَنْ الْمَكْرُوهَاتِ بَلْ يَجِبُ اتِّبَاعُهُ فِي أَقْوَالِهِ وَأَفْعَالِهِ وَأَقَلُّ الْأَحْوَالِ أَنْ يَكُونَ مُبَاحًا فَمِنْ ذَلِكَ «قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِعَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - تَرِبَتْ يَدَاك وَمِنْ أَيْنَ يَكُونُ الشَّبَهُ» لَمَّا تَعَجَّبَتْ مِمَّا لَمْ تَعْلَمْ مِنْ كَوْنِ الْمَرْأَةِ تُنْزِلُ الْمَنِيَّ كَمَا يُنْزِلُ الرَّجُلُ، وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - مَا أَرَادَ إذَايَتَهَا بِالدُّعَاءِ، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «عَلَيْك بِذَاتِ الدِّينِ تَرِبَتْ يَدَاك» لَيْسَ مِنْ الْإِرْشَادِ مَا يَقْتَضِي قَصْدَ الْإِضْرَارِ بِالدُّعَاءِ فَقَدْ اُسْتُعْمِلَ الدُّعَاءُ لَا عَلَى وَجْهِ الطَّلَبِ وَالتَّقَرُّبِ وَهُوَ عَيْنُ مَا نَحْنُ فِيهِ. قُلْت لَفْظُ الدُّعَاءِ إذَا غَلَبَ اسْتِعْمَالُهُ فِي الْعُرْفِ

ــ

[حاشية ابن الشاط = إدْرَار الشُّرُوقِ عَلَى أَنْوَاءِ الْفُرُوقِ]

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

[تَهْذِيب الْفُرُوقِ وَالْقَوَاعِدِ السنية فِي الْأَسْرَارِ الْفِقْهِيَّةِ]

حَقِّهِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَتَعَيَّنْ أَنْ يَكُونَ مِنْ الدَّاخِلِينَ النَّارَ الْخَارِجِينَ بِالشَّفَاعَةِ أَمَّا إنْ شَرَكَهُمْ مَعَهُ فِي جُمْلَةِ مَا طَلَبَهُ لِنَفْسِهِ مِنْ مَغْفِرَةِ جَمِيعِ الذُّنُوبِ فَإِنَّهُ يَكُونُ فِيهِ حِينَئِذٍ رَدٌّ عَلَى النُّبُوَّةِ فَيَكُونُ مُحَرَّمًا فَضْلًا عَنْ كَوْنِهِ مِنْ آدَابِ الدُّعَاءِ.

وَإِنْ أَطْلَقَ الدَّاعِي قَوْلَهُ اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي وَلِجَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ مِنْ غَيْرِ نِيَّةٍ جَازَ لِأَنَّ لَفْظَةَ افْعَلْ فِي سِيَاقِ الثُّبُوتِ فَلَا تَعُمُّ، وَكَذَلِكَ الْأَلْفَاظُ الَّتِي أَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْ الْمَلَائِكَةِ - صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ - أَنَّهُمْ يَطْلُبُونَ بِهَا الْمَغْفِرَةَ لِلْمُؤْمِنِينَ بِقَوْلِهِمْ {رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ} [غافر: ٧] أَيْ تَابُوا مِنْ الْكُفْرِ وَاتَّبَعُوا الْإِسْلَامَ وقَوْله تَعَالَى {وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الأَرْضِ} [الشورى: ٥] لَا عُمُومَ فِيهَا لِكَوْنِهَا أَفْعَالًا فِي سِيَاقِ الثُّبُوتِ فَلَا تَعُمُّ إجْمَاعًا، وَلَوْ كَانَتْ لِلْعُمُومِ لَوَجَبَ أَنْ يُعْتَقَدَ أَنَّهُمْ أَرَادُوا بِهَا الْخُصُوصَ وَهُوَ الْمَغْفِرَةُ مِنْ الْجُمْلَةِ لِلْقَوَاعِدِ الدَّالَّةِ عَلَى ذَلِكَ، وَأَمَّا الْمِثَالُ الثَّانِي فَلِأَنَّهُ قَدْ وَرَدَ فِي الصَّحِيحِ أَنَّ «الْخَلَائِقَ يُحْشَرُونَ حُفَاةً عُرَاةً غُرْلًا» ، وَأَمَّا الثَّالِثُ فَلِأَنَّهُ قَدْ وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ رُجُوعُ الْأَرْوَاحِ إلَى الْأَجْسَادِ «إنَّ الْمَيِّتَ يَسْمَعُ خَفْقَ أَنْعِلَةِ الْمُنْصَرِفِينَ» ، وَقَدْ قَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - فِي قَتْلَى بَدْرٍ «مَا أَنْتُمْ بِأَسْمَعَ مِنْهُمْ» وَلَيْسَ ذَلِكَ خَاصًّا بِهِمْ إجْمَاعًا اهـ قَالَ ابْنُ الشَّاطِّ وَمَا قَالَهُ مِنْ الدُّعَاءِ بِهَذِهِ الْأَدْعِيَةِ وَنَحْوِهَا مَعْصِيَةٌ مُجَرَّدُ دَعْوَى، وَمِنْ أَيْنَ يَلْزَمُ أَنْ لَا يُدْعَى إلَّا بِمَا يَجُوزُ وُقُوعُهُ؟ لَا أَعْرِفُ لِذَلِكَ وَجْهًا وَلَا دَلِيلًا.

وَمَا الْمَانِعُ مِنْ أَنْ يُكَلِّفَ اللَّهُ خَلْقَهُ أَنْ يَطْلُبُوا مِنْهُ الْمَغْفِرَةَ لِذُنُوبِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ مَعَ أَنَّهُ قَدْ قَضَى بِأَنَّ مِنْهُمْ مَنْ لَا يُغْفَرُ لَهُ وَمِنْ أَيْنَ يَلْزَمُ الْمُنَافَاةُ بَيْنَ طَلَبِ الْمَغْفِرَةِ وَوُجُوبِ نَقِيضِهَا؟ هَذَا أَمْرٌ لَا أَعْرِفُ لَهُ وَجْهًا إلَّا مُجَرَّدَ التَّحَكُّمِ بِمَحْضِ التَّوَهُّمِ وَمَا قَالَهُ مِنْ أَنَّهُ لَا عُمُومَ فِي قَوْله تَعَالَى {فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا} [غافر: ٧] وقَوْله تَعَالَى {وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الأَرْضِ} [الشورى: ٥] لِكَوْنِهَا أَفْعَالًا فِي سِيَاقِ الثُّبُوتِ خَطَأٌ فَاحِشٌ؛ لِأَنَّهُ الْتَفَتَ إلَى الْأَفْعَالِ دُونَ مَا بَعْدَهَا مِنْ مَعْمُولَاتِهَا وَالْمَعْمُولَاتُ فِي الْآيَتَيْنِ لَفْظًا عُمُومٌ، وَبِالْجُمْلَةِ فَقَدْ كَلَّفَ هَذَا الْإِنْسَانُ نَفْسَهُ شَطَطًا وَادَّعَى دَعْوًى لَا دَلِيلَ عَلَيْهَا وَلَا حَاجَةَ إلَيْهَا وَهْمًا مِنْهُ وَغَلَطًا، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى أَنَّ طَلَبَ نَفْيِ مَا دَلَّ السَّمْعُ الْقَاطِعُ عَلَى ثُبُوتِهِ لَيْسَ بِكُفْرٍ إلَّا عَلَى رَأْيِ مَنْ يُكَفِّرُ بِالْمَآلِ وَلَيْسَ ذَلِكَ مَذْهَبَهُ اهـ.

[الْقِسْمُ السَّادِسُ مِنْ الدُّعَاءِ الْمُحَرَّمِ الَّذِي لَيْسَ بِكُفْرٍ وَهُوَ أَنْ يَطْلُبَ الدَّاعِي مِنْ اللَّهِ تَعَالَى ثُبُوتَ أَمْرٍ دَلَّ السَّمْعُ الْوَارِدُ بِطَرِيقِ الْآحَادِ عَلَى نَفْيِهِ]

(الْقِسْمُ السَّادِسُ) أَنْ يَطْلُبَ الدَّاعِي مِنْ اللَّهِ تَعَالَى ثُبُوتَ أَمْرٍ دَلَّ السَّمْعُ الْوَارِدُ بِطَرِيقِ الْآحَادِ عَلَى نَفْيِهِ وَلَهُ أَمْثِلَةٌ: مِنْهَا أَنْ يَقُولَ اللَّهُمَّ اجْعَلْنِي أَوَّلَ مَنْ تَنْشَقُّ عَنْهُ الْأَرْضُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لِأَسْتَرِيحَ مِنْ غَمِّهَا وَوَحْشَتِهَا مُدَّةً مِنْ الزَّمَانِ قَبْلَ غَيْرِي، وَمِنْهَا أَنْ يَقُولَ اللَّهُمَّ اجْعَلْنِي أَوَّلَ دَاخِلٍ الْجَنَّةَ، وَمِنْهَا أَنْ يَقُولَ اللَّهُمَّ اجْعَلْ الْأَغْنِيَاءَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ قَبْلَ الْفُقَرَاءِ لِكَوْنِهِ مِنْ الْأَغْنِيَاءِ. قَالَ الْأَصْلُ: فَكُلُّ أَحَدٍ مِنْ هَذِهِ الْأَدْعِيَةِ الثَّلَاثَةِ مُضَادٌّ لِخَبَرٍ مِنْ أَخْبَارِ النُّبُوَّةِ فَيَكُونُ مَعْصِيَةً لَا كُفْرًا؛ لِأَنَّ الْحَدِيثَ هُنَا مِنْ أَخْبَارِ الْآحَادِ أَمَّا الْأَوَّلُ فَلِأَنَّهُ قَدْ وَرَدَ فِي الصَّحِيحِ قَوْلُهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «أَنَا أَوَّلُ مَنْ تَنْشَقُّ عَنْهُ الْأَرْضُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» .

وَأَمَّا الثَّانِي فَلِأَنَّهُ قَدْ وَرَدَ فِي الصَّحِيحِ أَنَّ «رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَوَّلُ دَاخِلِ الْجَنَّةِ» ، وَأَمَّا الثَّالِثُ فَلِأَنَّهُ قَدْ وَرَدَ فِي الصَّحِيحِ أَنَّ «الْفُقَرَاءَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ قَبْلَ الْأَغْنِيَاءِ بِخَمْسِمِائَةِ عَامٍ» اهـ وَتَعَقَّبَهُ ابْنُ الشَّاطِّ بِأَنَّهُ قَدْ سَبَقَ أَنَّهُ لَا مُضَادَّةَ بَيْنَ التَّكْلِيفِ بِطَلَبِ أَمْرٍ مَا وَنُفُوذِ الْقَضَاءِ بِعَدَمِ وُقُوعِهِ وَمُدَّعِي ذَلِكَ مُطَالَبٌ بِالدَّلِيلِ عَلَيْهِ وَلَمْ يَأْتِ عَلَى ذَلِكَ بِدَلِيلٍ إلَّا مُجَرَّدَ دَعْوَى الْمُضَادَّةِ اهـ بِلَفْظِهِ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ.

[الْقِسْمُ السَّابِعُ مِنْ الدُّعَاءِ الْمُحَرَّمِ الَّذِي لَيْسَ بِكُفْرٍ وَهُوَ الدُّعَاءُ الْمُعَلَّقُ عَلَى مَشِيئَةِ اللَّهِ تَعَالَى]

(الْفَرْقُ السَّادِسُ وَالْأَرْبَعُونَ وَالْمِائَتَانِ بَيْنَ قَاعِدَةِ مَا هُوَ مَكْرُوهٌ مِنْ الدُّعَاءِ وَقَاعِدَةِ مَا لَيْسَ بِمَكْرُوهٍ) .

وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ الْأَصْلَ فِي الدُّعَاءِ مِنْ حَيْثُ هُوَ دُعَاءٌ النَّدْبُ، وَقَدْ يَعْرِضُ لَهُ مِنْ جِهَةِ مُتَعَلِّقِهِ مَا يَقْتَضِي التَّحْرِيمَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ وَمَا يَقْتَضِي الْكَرَاهَةَ وَهُوَ أَحَدُ خَمْسَةِ أَسْبَابٍ:

(السَّبَبُ الْأَوَّلُ) الْأَمَاكِنُ الَّتِي لَا تَلِيقُ بِالْقُرْبِ إلَى اللَّهِ تَعَالَى كَالْحَمَّامَاتِ وَمَوَاضِعِ النَّجَاسَاتِ وَالْقَاذُورَاتِ وَالْكَنَائِسِ وَمَوَاضِعِ اللَّهْوِ وَاللَّعِبِ وَالْمَعَاصِي وَالْمُخَالَفَاتِ كَنَحْوِ الْخَانَاتِ وَالْأَسْوَاقِ الَّتِي يَغْلِبُ فِيهَا وُقُوعُ الْعُقُودِ الْفَاسِدَةِ وَالْأَيْمَانِ الْحَانِثَةِ «لِنَهْيِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ الصَّلَاةِ فِي الْمَزْبَلَةِ وَالْمَجْزَرَةِ وَقَارِعَةِ الطَّرِيقِ» .

(وَالسَّبَبُ الثَّانِي) الْهَيْئَاتُ الَّتِي لَا تَلِيقُ بِالْقُرْبِ إلَى اللَّهِ تَعَالَى كَحَالَةِ النُّعَاسِ وَفَرْطِ الشِّبَعِ وَمُدَافَعَةِ الْأَخْبَثَيْنِ وَمُلَابَسَةِ النَّجَاسَاتِ وَالْقَاذُورَاتِ وَقَضَاءِ حَاجَةِ الْإِنْسَانِ فَإِنْ فَعَلَ الدُّعَاءَ فِي الْأَمَاكِنِ الْمَذْكُورَةِ أَوْ عَلَى حَالَةٍ مِنْ تِلْكَ الْأَحْوَالِ صَحَّ مَعَ فَوَاتِ رُتْبَةِ الْكَمَالِ.

(وَالسَّبَبُ الثَّالِثُ) كَوْنُهُ سَبَبًا

<<  <  ج: ص:  >  >>