للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

أُصُولِيَّةٍ مَذْكُورَةٍ فِي هَذَا الْبَابِ وَهِيَ أَنَّا إذَا قُلْنَا بِحَمْلِ الْمُطْلَقِ عَلَى الْمُقَيَّدِ فَوَرَدَ الْمُطْلَقُ مُقَيَّدًا بِقَيْدَيْنِ مُتَضَادَّيْنِ فَتَعَذَّرَ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا تَسَاقَطَا فَإِنْ اقْتَضَى الْقِيَاسُ الْحَمْلَ عَلَى أَحَدِهِمَا تَرَجَّحَ وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ وَرَدَ الْمُطْلَقُ فِيهِ مُقَيَّدًا بِقَيْدَيْنِ مُتَضَادَّيْنِ فَوَرَدَ أُولَاهُنَّ وَوَرَدَ أُخْرَاهُنَّ فَتَسَاقَطَا وَبَقِيَ إحْدَاهُنَّ عَلَى إطْلَاقِهِ فَلَمْ يُخَالِفْ الشَّافِعِيَّةُ أُصُولَهُمْ وَأَمَّا أَصْحَابُنَا الْمَالِكِيَّةُ فَلَمْ يَعْرُجُوا عَلَى هَذَا الْحَدِيثِ الْمُطْلَقِ وَلَا عَلَى قَيْدَيْهِ بَلْ اقْتَصَرُوا عَلَى سَبْعٍ مِنْ غَيْرِ تُرَابٍ، وَأَنَا مُتَعَجِّبٌ مِنْ ذَلِكَ مَعَ وُرُودِهِ فِي الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ.

(الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ) وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ «- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ نَهَى عَنْ بَيْعِ مَا لَمْ يُقْبَضْ» وَأَخَذَ الشَّافِعِيُّ بِعُمُومِ هَذَا الْحَدِيثِ وَوَرَدَ أَيْضًا نَهْيُهُ عَنْ بَيْعِ الطَّعَامِ قَبْلَ قَبْضِهِ فَخَصَّصَ أَصْحَابُنَا الْمَنْعَ بِالطَّعَامِ خَاصَّةً وَجَوَّزُوا بَيْعَ غَيْرِهِ قَبْلَ قَبْضِهِ وَاخْتَلَفَتْ مَدَارِكُهُمْ فِي ذَلِكَ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ هُوَ مِنْ بَابِ حَمْلِ الْمُطْلَقِ عَلَى الْمُقَيَّدِ فَيُحْمَلُ الْإِطْلَاقُ فِي الْحَدِيثِ الْأَوَّلِ عَلَى التَّقْيِيدِ فِي الْحَدِيثِ الثَّانِي وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ الْأَوَّلُ عَامٌّ وَالثَّانِي خَاصٌّ وَإِذَا تَعَارَضَ الْعَامُّ وَالْخَاصُّ قُدِّمَ الْخَاصُّ عَلَى الْعَامِّ وَالْمُدْرَكَانِ بَاطِلَانِ أَمَّا الْأَوَّلُ فَلِأَنَّهُ وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ الْمُطْلَقَ إنَّمَا يُحْمَلُ عَلَى الْمُقَيَّدِ فِي الْكُلِّيِّ دُونَ الْكُلِّيَّةِ وَهَذَا الْحَدِيثُ الْأَوَّلُ عَامٌّ فَهُوَ كُلِّيَّةٌ فَلَا يَصِحُّ فِيهِ حَمْلُ الْمُطْلَقِ عَلَى الْمُقَيَّدِ وَأَمَّا الْمُدْرَكُ الثَّانِي فَهُوَ مِنْ بَابِ تَخْصِيصِ الْعُمُومِ بِذِكْرِ بَعْضِهِ وَهُوَ بَاطِلٌ كَمَا تَقَرَّرَ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ فَإِنَّهُ لَا مُنَافَاةَ بَيْنَ ذِكْرِ الشَّيْءِ وَذِكْرِ بَعْضِهِ وَالطَّعَامُ هُوَ بَعْضُ مَا تَنَاوَلَهُ الْعُمُومُ الْأَوَّلُ فَلَا يَصِحُّ تَخْصِيصُهُ فِيهِ فَبَقِيَتْ الْمَسْأَلَةُ مُشْكِلَةً عَلَيْنَا وَيَظْهَرُ أَنَّ الصَّوَابَ مَعَ الشَّافِعِيِّ.

(الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ) قَالَ مَالِكٌ مَنْ ارْتَدَّ حَبِطَ عَمَلُهُ بِمُجَرَّدِ رِدَّتِهِ وَقَالَ الشَّافِعِيُّ لَا يُحْبَطُ عَمَلُهُ إلَّا بِالْوَفَاةِ عَلَى الْكُفْرِ لِأَنَّ قَوْله تَعَالَى {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} [الزمر: ٦٥] وَإِنْ كَانَ مُطْلَقًا

ــ

[حاشية ابن الشاط = إدْرَار الشُّرُوقِ عَلَى أَنْوَاءِ الْفُرُوقِ]

قَالَ (الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ)

قَالَ مَالِكٌ مَنْ ارْتَدَّ حَبَطَ عَمَلُهُ بِمُجَرَّدِ رِدَّتِهِ إلَى قَوْلِهِ

ــ

[تَهْذِيب الْفُرُوقِ وَالْقَوَاعِدِ السنية فِي الْأَسْرَارِ الْفِقْهِيَّةِ]

تَقْتَضِيهِ مِنْ تَقْيِيدِ لَفْظِهِ الْمُطْلَقِ وَتَخْصِيصِ لَفْظِ الْعَامِّ ثُمَّ السَّبَبِ وَالْبِسَاطِ وَذَلِكَ لِأَنَّهُ إذَا أُنْزِلَ لَفْظُ الْحَالِفِ عَلَى مَا يَقْتَضِيهِ السَّبَبُ وَالْبِسَاطُ مِنْ تَقْيِيدِ اللَّفْظِ أَوْ تَخْصِيصِهِ وَلَمْ يَحْنَثْ بِمَا عَدَاهُ مَعَ أَنَّ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ إلَّا لِأَنَّ السَّبَبَ وَالْبِسَاطَ يَدُلَّانِ عَلَى قَصْدِ الْحَالِفِ التَّقْيِيدَ أَوْ التَّخْصِيصَ فَلَأَنْ يُعْتَبَرَ التَّقْيِيدُ وَالتَّخْصِيصُ الْمَنْوِيَّانِ أَوْلَى مِنْ الْمُسْتَدَلِّ عَلَيْهِمَا بِالسَّبَبِ وَالْبِسَاطِ فَافْهَمْ.

وَإِنْ أَطْلَقَ الْمُطَلِّقُ اللَّفْظَ الْعَامَّ وَقَالَ نَوَيْت إخْرَاجَ بَعْضِ أَنْوَاعِهِ عَنْ الْيَمِينِ كَانَ اسْتِثْنَاءً بِالنِّيَّةِ دُونَ النُّطْقِ وَفِيهِ خِلَافٌ هَلْ يُجْزِئُ أَوْ لَا قَالَ صَاحِبُ الْجَوَاهِرِ مُنْشَؤُهُ أَيْ الْخِلَافِ النَّظَرُ إلَى أَنَّهُ مِنْ بَابِ تَخْصِيصِ الْعُمُومِ فَيُجْزِئُ بِالنِّيَّةِ أَوْ النَّظَرِ إلَى حَقِيقَةِ الِاسْتِثْنَاءِ فَلَا يُجْزِئُ إلَّا نُطْقًا اهـ فَظَهَرَ مِنْ هَذَا أَنَّ سِرَّ الْفَرْقِ بَيْنَ النِّيَّةِ الْمُخَصِّصَةِ تُعْتَبَرُ بِلَا خِلَافٍ وَبَيْنَ النِّيَّةِ الْمُخْرِجَةِ هَلْ تُعْتَبَرُ أَوْ لَا خِلَافٌ هُوَ أَنَّ النِّيَّةَ الْمُخَصِّصَةَ لَمَّا كَانَتْ أَصْلًا يُقَاسُ عَلَيْهِ غَيْرُهُ كَانَتْ نَصًّا فِي التَّخْصِيصِ لَا تَحْتَمِلُ غَيْرَهُ فَاعْتُبِرَتْ فِيهِ بِلَا خِلَافٍ وَالنِّيَّةُ الْمُخْرِجَةُ لَمَّا كَانَتْ تُحْتَمَلُ أَنَّهَا مِنْ قَبِيلِ النِّيَّةِ الْمُخَصِّصَةِ أَوْ مِنْ قَبِيلِ الِاسْتِثْنَاءِ بِالنِّيَّةِ دُونَ النُّطْقِ جَرَى الْخِلَافُ فِي اعْتِبَارِهَا فِي التَّخْصِيصِ نَظَرًا لِلِاحْتِمَالِ الْأَوَّلِ أَوْ عَدَمِ اعْتِبَارِهَا نَظَرًا لِلثَّانِي هَذَا تَحْقِيقُ الْمَقَامِ عَلَى مَا حَرَّرَهُ ابْنُ الشَّاطِّ وَبِهِ يَسْقُطُ جَمِيعَ مَا ذَكَرَهُ الْأَصْلُ بِنَاءً عَلَى الْوَهْمِ الْمَارِّ ذِكْرُهُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ

[الْفَرْق بَيْن قَاعِدَة تَمْلِيك الِانْتِفَاع وَبَيْن قَاعِدَة تَمْلِيك الْمَنْفَعَة]

(الْفَرْقُ الثَّلَاثُونَ بَيْنَ قَاعِدَةِ تَمْلِيكِ الِانْتِفَاعِ وَبَيْنَ قَاعِدَةِ تَمْلِيكِ الْمَنْفَعَةِ) تَمْلِيكُ الِانْتِفَاعِ عِبَارَةٌ عَنْ الْإِذْنِ لِلشَّخْصِ فِي أَنْ يُبَاشِرَ هُوَ بِنَفْسِهِ فَقَطْ كَالْإِذْنِ فِي سُكْنَى الْمَدَارِسِ وَالرَّبْطِ وَالْمَجَالِسِ فِي الْجَوَامِعِ وَالْمَسَاجِدِ وَالْأَسْوَاقِ وَمَوَاضِعِ النُّسُكِ كَالْمَطَافِ وَالْمَسْعَى وَنَحْوِ ذَلِكَ فَلِمَنْ أُذِنَ لَهُ فِي ذَلِكَ أَنْ يَنْتَفِعَ بِنَفْسِهِ فَقَطْ وَيَمْتَنِعَ فِي حَقِّهِ أَنْ يُؤَاجِرَ أَوْ يُعَاوِضَ بِطَرِيقٍ مِنْ طُرُقِ الْمُعَاوَضَاتِ أَوْ يُسَكِّنَ غَيْرَهُ لِبَيْتِ الْمَدْرَسَةِ أَوْ غَيْرُهُ مِنْ بَقِيَّةِ النَّظَائِرِ الْمَذْكُورَةِ مَعَهُ وَتَمْلِيكُ الْمَنْفَعَةِ عِبَارَةٌ عَنْ الْإِذْنِ لِلشَّخْصِ فِي أَنْ يُبَاشِرَ هُوَ بِنَفْسِهِ أَوْ يُمَكِّنَ غَيْرَهُ مِنْ الِانْتِفَاعِ بِعِوَضٍ كَالْإِجَارَةِ وَبِغَيْرِ عِوَضٍ كَالْعَارِيَّةِ كَمَنْ اسْتَأْجَرَ دَارًا أَوْ اسْتَعَارَهَا فَلَهُ أَنْ يُؤَاجِرَهَا مِنْ غَيْرِهِ أَوْ يُسَكِّنَهُ بِغَيْرِ عِوَضٍ وَأَنْ يَتَصَرَّفَ فِي هَذِهِ الْمَنْفَعَةِ تَصَرُّفَ الْمُلَّاكِ فِي أَمْلَاكِهِمْ عَلَى جَرْيِ الْعَادَةِ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي مَلَكَهُ فَهُوَ تَمْلِيكٌ مُطْلَقٌ فِي زَمَنٍ خَاصٍّ حَسْبَمَا تَنَاوَلَهُ عَقْدُ الْإِجَارَةِ أَوْ شَهِدَتْ بِهِ الْعَادَةُ فِي الْعَارِيَّةِ فَمَنْ شَهِدَتْ لَهُ الْعَادَةُ فِي الْعَارِيَّةِ بِمُدَّةٍ كَانَتْ لَهُ تِلْكَ الْمُدَّةُ مِلْكًا عَلَى الْإِطْلَاقِ يَتَصَرَّفُ كَمَا يَشَاءُ بِجَمِيعِ الْأَنْوَاعِ السَّائِغَةِ فِي التَّصَرُّفِ فِي الْمَنْفَعَةِ فِي تِلْكَ الْمُدَّةِ وَيَكُونُ تَمْلِيكُ هَذِهِ الْمَنْفَعَةِ كَتَمْلِيكِ الرِّقَابِ (وَصْلٌ) فِي أَرْبَعِ مَسَائِلَ تَتَعَلَّقُ بِهَذَا الْفَرْقِ.

(الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى) النِّكَاحُ مِنْ حَيْثُ إنَّ مُقْتَضَى عَقْدِهِ أَنْ يُبَاشِرَ الزَّوْجُ مَنْفَعَتَهُ بِنَفْسِهِ خَاصَّةً وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُمَكِّنَ غَيْرَهُ مِنْ تِلْكَ الْمَنْفَعَةِ لِكَوْنِهِ لَيْسَ مَالِكًا لِلْمَنْفَعَةِ وَلَا لِبُضْعِ الزَّوْجَةِ كَانَ مِنْ بَابِ تَمْلِيكِ الِانْتِفَاعِ لَا مِنْ بَابِ تَمْلِيكِ الْمَنْفَعَةِ (الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ) الْوَكَالَةُ إنْ كَانَتْ بِغَيْرِ عِوَضٍ كَانَتْ مِنْ بَابِ تَمْلِيكِ الِانْتِفَاعِ لَا مِنْ بَابِ تَمْلِيكِ الْمَنْفَعَةِ لِأَنَّهَا تَقْتَضِي حِينَئِذٍ أَنَّ الْمُوَكِّلَ مَلَكَ مِنْ الْوَكِيلِ أَنْ يَنْتَفِعَ بِهِ بِنَفْسِهِ وَلَمْ يَمْلِكْ مَنْفَعَتَهُ فَلَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَهَبَ الِانْتِفَاعَ بِذَلِكَ الْوَكِيلِ لِغَيْرِهِ بَلْ يَنْتَفِعَ بِهِ بِنَفْسِهِ أَوْ يُهْمِلَهُ أَوْ يَعْزِلَهُ وَإِنْ كَانَتْ بِعِوَضٍ كَانَتْ مِنْ

<<  <  ج: ص:  >  >>