للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

عَكْسُ مَا نَحْنُ عَلَيْهِ الْيَوْمَ فَعَلِمْنَا أَنَّ لَفْظَ الطَّلَاقِ لَمْ يُوجِبْ إزَالَةَ الْعِصْمَةِ بِالْوَضْعِ اللُّغَوِيِّ بَلْ بِالْعُرْفِ الْإِنْشَائِيِّ (فَإِنْ قُلْت) لَيْسَ الطَّلَاقُ وَإِزَالَةُ الْعِصْمَةِ أَمْرًا اخْتَصَّ بِهِ بِالشَّرِيعَةِ بَلْ الْعَرَبُ كَانَتْ تَنْكِحُ وَتُطَلِّقُ، وَقَدْ كَانَتْ تُطَلِّقُ بِالظِّهَارِ وَلَفْظُ الطَّلَاقِ مَعْرُوفٌ عِنْدَ الْعَرَبِ قَبْلَ الْبَعْثَةِ فَتَكُونُ إزَالَةُ الْعِصْمَةِ بِالْوَضْعِ اللُّغَوِيِّ السَّابِقِ عَلَى الشَّرِيعَةِ لَا بِأَمْرٍ يَتَجَدَّدُ بَعْدَ الشَّرِيعَةِ.

(قُلْت) مُسَلَّمٌ أَنَّ الطَّلَاقَ وَإِزَالَةَ الْعِصْمَةِ كَانَا مَعْلُومَيْنِ قَبْلَ الْبَعْثَةِ النَّبَوِيَّةِ عِنْدَ الْعَرَبِ، وَالْإِنْشَاءَاتُ عِنْدَ الْعَرَبِ أَيْضًا تَتَقَدَّمُ عَلَى الشَّرِيعَةِ وَتَكُونُ عُرْفِيَّةً أَلَا تَرَى أَنَّ الرِّوَايَةَ وَالْبَحْرَ وَالْغَائِطَ وَالْخَلَا أَلْفَاظٌ كَانَتْ الْعَرَبُ تَسْتَعْمِلهَا قَبْلَ الْبَعْثَةِ، وَمَعَ ذَلِكَ فَقَدْ نَصَّ أَئِمَّةُ اللُّغَةِ عَلَى أَنَّهَا مَجَازَاتٌ لُغَوِيَّةٌ وَحَقَائِقُ عُرْفِيَّةٌ فَإِنَّ الْعَوَائِدَ قَدْ تَحْدُثُ مَعَ طُولِ الْأَيَّامِ بَعَثَ اللَّهُ نَبِيَّنَا أَمْ لَا فَالْجَاهِلِيَّةُ تَحْدُثُ لَهَا عَوَائِدُ كَمَا تَحْدُثُ لَنَا وَمِنْ هَذَا عُقُودُ الْمُعَاوَضَاتِ كَانُوا يَتَدَاوَلُونَهَا إنْشَاءَاتٌ وَأَلْفَاظٌ عُرْفِيَّةٌ مَنْقُولَةٌ وَمِنْ ذَلِكَ الْقِسْمِ إنْشَاءٌ عُرْفِيٌّ وَهُوَ مُتَقَدِّمٌ فِي الْجَاهِلِيَّةِ فَلَا تَنَافِي بَيْنَ قَوْلِنَا الطَّلَاقُ إنْشَاءٌ عُرْفِيٌّ وَبَيْنَ كَوْنِهِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ قَبْلَ الْإِسْلَامِ، وَإِنَّمَا الْقَصْدُ أَنْ يُعْلَمَ أَنَّ لَفْظَ الطَّلَاقِ إنَّمَا أَزَالَ الْعِصْمَةَ بِغَيْرِ الْوَضْعِ اللُّغَوِيِّ بَلْ بِالْوَضْعِ الْعُرْفِيِّ، وَإِنَّمَا هُوَ مَجَازٌ عَنْ اللُّغَةِ لَا حَقِيقَةٌ، وَفَائِدَةُ الْفَرْقِ أَنَّهُ إنَّمَا يُفِيدُ زَوَالَ الْعِصْمَةِ بِالْعُرْفِ وَالْعَوَائِدِ، وَأَنَّهَا مُدْرَكُ إفَادَتِهِ كَذَلِكَ لِتَنَقُّلِنَا مَعَهَا كَيْفَ تَنَقَّلَتْ؛ لِأَنَّهَا الْمُدْرَكُ، وَإِذَا كَانَ الْمُوجِبُ هُوَ الْوَضْعُ اللُّغَوِيُّ وَجَبَ الثُّبُوتُ مَعَهُ وَإِلْزَامُ الطَّلَاقِ بِهِ حَتَّى تَطْرَأَ عَادَةٌ نَاسِخَةٌ لِاقْتِضَاءِ ذَلِكَ فَيَكُونُ اللُّزُومُ هُوَ الْأَصْلُ حَتَّى يَطْرَأَ النَّاسِخُ الْمُبْطِلُ، وَإِذَا قُلْنَا إنَّهَا تُوجِبُ بِالْعَادَةِ كَانَ الْأَصْلُ هُوَ عَدَمُ اللُّزُومِ

ــ

[حاشية ابن الشاط = إدْرَار الشُّرُوقِ عَلَى أَنْوَاءِ الْفُرُوقِ]

عَكْسُ مَا نَحْنُ عَلَيْهِ الْيَوْمَ، فَعَلِمْنَا أَنَّ لَفْظَ الطَّلَاقِ لَمْ يُوجِبْ إزَالَةَ الْعِصْمَةِ بِالْوَضْعِ اللُّغَوِيِّ بَلْ بِالْعُرْفِ الْإِنْشَائِيِّ) .

قُلْت كَلَامُهُ هَذَا مَبْنِيٌّ عَلَى دَعْوَى اتِّحَادِ مَعْنَى كُلِّ لَفْظٍ تَصَرَّفَ مِنْ الطَّاءِ وَاللَّامِ وَالْقَافِ، وَهِيَ غَيْرُ مُسَلَّمَةٍ كَمَا سَبَقَ قَالَ فَإِنْ قُلْت إلَى قَوْلِهِ فِي آخِرِ الْجَوَابِ وَأَنَّهُ مَجَازٌ عَنْ اللُّغَةِ لَا حَقِيقَةٌ قُلْت جَمِيعُ مَا قَالَهُ فِي ذَلِكَ ظَاهِرٌ صَحِيحٌ وَمَا قَالَهُ فِي أَثْنَاءِ الْفَصْلِ مِنْ أَنَّ أَلْفَاظَ عُقُودِ الْمُعَاوَضَاتِ عُرْفِيَّةٌ مَنْقُولُهُ مَبْنِيٌّ عَلَى رُجْحَانِ الْمَجَازِ عَلَى الِاشْتِرَاكِ كَمَا سَبَقَ.

قَالَ (وَفَائِدَةُ الْفَرْقِ أَنَّهُ إذَا كَانَ يُفِيدُ إزَالَةَ قَيْدِ الْعِصْمَةِ بِالْعُرْفِ وَالْعَوَائِدِ، وَأَنَّهَا مُدْرَكٌ أَفَادَتْهُ كَذَلِكَ بِتَنَقُّلِهَا مَعَهَا كَيْفَ تَنَقَّلَتْ لِأَنَّهَا الْمُدْرَكُ، وَإِذَا كَانَ الْمُوجِبُ هُوَ الْوَضْعُ اللُّغَوِيُّ وَجَبَ الثُّبُوتُ مَعَهُ وَإِلْزَامُ الطَّلَاقِ بِهِ حَتَّى يَطْرَأَ النَّاسِخُ الْمُبْطِلُ) قُلْت مَا قَالَهُ هُنَا لَيْسَ بِصَحِيحٍ فَإِنَّهُ كَمَا يَتَبَدَّلُ الْعُرْفُ مِنْ الْعُرْفِ كَذَلِكَ يَتَبَدَّلُ الْعُرْفُ مِنْ اللُّغَةِ، وَإِلْزَامُ الْعُقُودِ مِنْ الطَّلَاقِ وَغَيْرِهِ مَبْنِيٌّ عَلَى نِيَّةِ الْمُتَكَلِّمِ أَوْ عَلَى عُرْفِهِ لَا عَلَى اللُّغَةِ وَلَا عَلَى عُرْفِ غَيْرِهِ هَذَا فِيمَا يَرْجِعُ إلَى الْفَتْوَى.

وَأَمَّا مَا يَرْجِعُ إلَى الْحُكْمِ فَأَمْرٌ آخَرُ لِمُنَازَعَةِ غَيْرِهِ لَهُ فَإِنَّمَا يُحْكَمُ بِعُرْفِهِ لَا بِنِيَّتِهِ لِاحْتِمَالِ كَذِبِهِ فِيمَا يَدَّعِيهِ مِنْ النِّيَّةِ فَالْحُكْمُ مُتَرَتَّبٌ عَلَى الْعُرْفِ سَوَاءٌ كَانَ ذَلِكَ الْعُرْفُ نَاقِلًا عَنْ اللُّغَةِ أَمْ عَنْ عُرْفٍ سَابِقٍ عَلَيْهِ نَاقِلٍ عَنْ اللُّغَةِ، وَعَلَى الْجُمْلَةِ فَالِاعْتِبَارُ بِالِاسْتِعْمَالِ الْجَارِي فِي زَمَنِ وُقُوعِ الْعَقْدِ فَإِنْ كَانَ لُغَةً جَرَى الْحُكْمُ بِحَسَبِهِ، وَإِنْ كَانَ عُرْفًا نَاسِخًا لَهَا أَوْ لِعُرْفٍ نَاسِخٍ لَهَا فَكَذَلِكَ هَذَا إنْ لَمْ يُرِدْ مَا رَأَيْتُهُ فَإِنَّ لَفْظَةَ فِيهِ احْتِمَالٌ.

قَالَ شِهَابُ الدِّينِ: (وَإِذَا قُلْنَا إنَّهَا تُوجِبُ بِالْعَادَةِ كَانَ الْأَصْلُ هُوَ عَدَمُ اللُّزُومِ

ــ

[تَهْذِيب الْفُرُوقِ وَالْقَوَاعِدِ السنية فِي الْأَسْرَارِ الْفِقْهِيَّةِ]

مَجَازَاتٌ لُغَوِيَّةٌ وَحَقَائِقُ عُرْفِيَّةٌ فَلَا تَنَافِي بَيْنَ قَوْلِنَا الطَّلَاقُ إنْشَاءٌ عُرْفِيٌّ وَبَيْنَ كَوْنِهِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ قَبْلَ الْإِسْلَامِ، وَإِنَّمَا الْقَصْدُ أَنْ يُعْلَمَ أَنَّ لَفْظَ الطَّلَاقِ إنَّمَا أَزَالَ الْعِصْمَةَ بِغَيْرِ الْوَضْعِ اللُّغَوِيِّ بَلْ بِالْوَضْعِ الْعُرْفِيِّ، وَإِنَّمَا هُوَ مَجَازٌ عَنْ اللُّغَةِ لَا حَقِيقَةٌ وَمِنْ قَبِيلِ لَفْظِ الطَّلَاقِ فِي كَوْنِهِ مَجَازًا عَنْ اللُّغَةِ لَا حَقِيقَةً بِنَاءً عَلَى رُجْحَانِ الْمَجَازِ عَلَى الِاشْتِرَاكِ فِي عُقُودِ الْمُعَاوَضَاتِ وَالْقَسَمُ كَانَتْ الْعَرَبُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ يَتَدَاوَلُونَهَا إنْشَاءَاتٍ وَأَلْفَاظًا عُرْفِيَّةً مَنْقُولَةً.

فَالْعُرْفُ يَتَبَدَّلُ مِنْ اللُّغَةِ كَمَا يَتَبَدَّلُ مِنْ عُرْفٍ آخَرَ قَبْلَهُ، وَإِلْزَامُ الْعُقُودِ مِنْ الطَّلَاقِ وَغَيْرِهِ يَنْبَنِي فِي الْفَتْوَى عَلَى نِيَّةِ الْمُتَكَلِّمِ أَوْ عَلَى عُرْفِهِ لَا عَلَى اللُّغَةِ وَلَا عَلَى عُرْفٍ غَيْرِهِ وَفِي الْقَضَاءِ لِمُنَازَعَةِ غَيْرِهِ لَهُ إنَّمَا يَنْبَنِي عَلَى عُرْفِهِ لَا عَلَى نِيَّتِهِ لِاحْتِمَالِ كَذِبِهِ فِيمَا يَدَّعِيهِ مِنْ النِّيَّةِ فَالْحُكْمُ مُتَرَتِّبٌ عَلَى الْعُرْفِ سَوَاءٌ كَانَ ذَلِكَ الْعُرْفُ نَاقِلًا عَنْ اللُّغَةِ أَمْ عَنْ عُرْفٍ سَابِقٍ عَلَيْهِ نَاقِلٍ عَنْ اللُّغَةِ.

وَبِالْجُمْلَةِ فَالِاعْتِبَارُ بِالِاسْتِعْمَالِ الْجَارِي فِي زَمَنِ وُقُوعِ الْعَقْدِ فَإِنْ كَانَ لُغَةً جَرَى الْحُكْمُ بِحَسَبِهِ وَإِنْ كَانَ عُرْفًا نَاسِخًا لَهَا أَوْ لِعُرْفٍ نَاسِخٍ لَهَا فَكَذَلِكَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

[الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ قَوْلَ الْقَائِلِ حَبْلُك عَلَى غَارِبِكِ]

(الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ) الْأَصْلُ وَالْقَاعِدَةُ الْمُعْتَمَدَةُ فِي الْعُقُودِ كُلِّهَا إنَّمَا هِيَ النِّيَّةُ وَالْقَصْدُ مَعَ اللَّفْظِ الْمُشْعِرِ بِذَلِكَ أَوْ مَا يَقُومُ مَقَامَهُ مِنْ إشَارَةٍ وَشَبَهِهَا، ثُمَّ اللَّفْظُ إمَّا أَنْ لَا يُشْعِرَ بِالْمَقْصُودِ لُغَةً وَلَا عُرْفًا فَلَا بُدَّ مِنْ التَّنْوِيهِ فِي الْفَتْوَى وَالْقَضَاءِ مَعًا، وَإِمَّا أَنْ يُشْعِرَ بِالْمَقْصُودِ لُغَةً أَوْ عُرْفًا وَالْعُرْفُ لُغَوِيٌّ وَشَرْعِيٌّ وَوَقْتِيٌّ حَادِثٌ فَيُحْمَلُ فِي الْقَضَاءِ دُونَ تَنْوِيهٍ عَلَى مَا يُشْعِرُ بِهِ مِنْ عُرْفِيٍّ وَقْتِيٍّ فَشَرْعِيٍّ فَعُرْفِيٍّ لُغَوِيٍّ فَلُغَوِيٍّ أَصْلِيٍّ وَفِي الْفَتْوَى عَلَى التَّنْوِيهِ فَالْعُرْفُ الْوَقْتِيُّ فَالشَّرْعِيُّ فَالْعُرْفِيُّ اللُّغَوِيُّ فَاللُّغَوِيُّ الْأَصْلِيُّ فَإِنْ اجْتَمَعَ فِي اللَّفْظِ الْأَصْلِيِّ وَالْعُرْفِيِّ وَالشَّرْعِيِّ وَالْوَقْتِيِّ فَالْمُعْتَبَرُ الْوَقْتِيُّ فِي الْقَضَاءِ وَالْفَتْوَى فَإِذَا تَقَرَّرَ ذَلِكَ فَالْأَلْفَاظُ الَّتِي ذَكَرَ الْفُقَهَاءُ أَنَّ الْمُرَادَ بِهَا مُطْلَقَ الطَّلَاقِ أَوْ مُقَيَّدُهُ لَا تَخْلُو مِنْ أَنْ تَكُونَ إرَادَةُ ذَلِكَ بِهَا بِاللُّغَةِ أَوْ بِعُرْفِ اللُّغَةِ أَوْ بِعُرْفِ الشَّرْعِ أَوْ بِعُرْفٍ حَادِثٍ بَعْدُ، فَإِنْ كَانَتْ لُغَوِيَّةً وَضْعًا أَوْ عُرْفًا أَوْ شَرْعِيَّةً فَاَلَّذِي يَقْتَضِيهِ النَّظَرُ أَنَّهَا مَحْمُولَةٌ عَلَى مُقْتَضَاهَا فِي كُلِّ زَمَانٍ وَبِكُلِّ مَكَان وَمُسْتَنَدُ ذَلِكَ أَنَّ كُلَّ لَفْظٍ

<<  <  ج: ص:  >  >>