للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وَبِهَذِهِ الْمَبَاحِثِ أَيْضًا يَظْهَرُ مَا قَالَهُ الْعُلَمَاءُ أَنَّ الْإِمَامَ إذَا وَجَدَ مَنْ هُوَ أَصْلَحُ لِلْقَضَاءِ مِمَّنْ هُوَ مُتَوَلٍّ الْآنَ عَزَلَ الْأَوَّلَ وَوَلَّى الثَّانِيَ، وَكَانَ ذَلِكَ وَاجِبًا عَلَيْهِ لِئَلَّا يُفَوِّتَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ مَصْلَحَةَ الْأَفْضَلِ مِنْهُمَا، وَيَحْرُمُ عَلَيْهِ أَنْ يَعْزِلَ الْأَعْلَى بِالْأَدْنَى لِئَلَّا يُفَوِّتَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ مَصْلَحَةَ الْأَعْلَى وَلَا يَنْفُذُ عَزْلُ الْأَعْلَى؛ لِأَنَّ الْإِمَامَ الَّذِي عَزَلَهُ مَعْزُولٌ عَنْ عَزْلِهِ، وَإِنَّمَا وَلَّاهُ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى خِلَافِ ذَلِكَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [الأنعام: ١٥٢] وَإِذَا كَانَ الْوَصِيُّ مَعْزُولًا عَنْ غَيْرِ الْأَحْسَنِ فِي مَالِ الْيَتِيمِ فَمَصْلَحَةُ جَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ أَوْلَى بِذَلِكَ.

فَالْإِمَامُ الْأَعْظَمُ مَعْزُولٌ عَنْ عَزْلِ الْأَصْلَحِ لِلنَّاسِ، وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَنْ وَلِيَ مِنْ أُمُورِ أُمَّتِي شَيْئًا ثُمَّ لَمْ يَجْتَهِدْ لَهُمْ وَلَمْ يَنْصَحْ فَالْجَنَّةُ عَلَيْهِ حَرَامٌ»

ــ

[حاشية ابن الشاط = إدْرَار الشُّرُوقِ عَلَى أَنْوَاءِ الْفُرُوقِ]

الْعُلُوِّ وَالرِّئَاسَةِ، وَإِنَّهُمْ لَمَّا رَأَوْا أَنَّ الْأَمْرَ لَا يَصْفُو لَهُمْ طَلَبُوا الشَّرِكَةَ فَإِنَّ ذَلِكَ كُلَّهُ أَمْرٌ لَا يَلِيقُ بِهِمْ، وَلَا تَصِحُّ نِسْبَةُ مِثْلِهِ إلَيْهِمْ، وَلَيْسَ الظَّنُّ بِهِمْ إلَّا أَنَّهُمْ طَلَبُوا ذَلِكَ لِتَحْصِيلِ الْأُجُورِ الْحَاصِلَةِ لِمُتَوَلِّي أَمْرِ الْإِمَامَةِ عَلَى الْوَجْهِ الشَّرْعِيِّ فَلَمَّا لَمْ يُسَاعَدُوا عَلَى ذَلِكَ طَلَبُوا الشَّرِكَةَ طَمَعًا فِي تَحْصِيلِ بَعْضِ تِلْكَ الْأُجُورِ إذْ تَعَذَّرَ تَحْصِيلُ جَمِيعِهَا هَذَا هُوَ اللَّائِقُ بِهِمْ لَا مَا ذَكَرَهُ مِنْ إيثَارِ الرِّئَاسَةِ الدُّنْيَوِيَّةِ الَّتِي لَا تُنَاسِبُ أَحْوَالَهُمْ فِي بَذْلِهِمْ فِي ذَاتِ اللَّهِ تَعَالَى أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

قَالَ: (وَبِهَذِهِ الْمَبَاحِثِ أَيْضًا يَظْهَرُ مَا قَالَهُ الْعُلَمَاءُ أَنَّ الْإِمَامَ إذَا وَجَدَ مَنْ هُوَ أَصْلَحُ لِلْقَضَاءِ مِمَّنْ هُوَ مُتَوَلٍّ الْآنَ عَزَلَ الْأَوَّلَ وَوَلَّى الثَّانِيَ، وَكَانَ ذَلِكَ وَاجِبًا عَلَيْهِ لِئَلَّا يُفَوِّتَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ مَصْلَحَةَ الْأَفْضَلِ إلَى آخِرِ مَا قَالَهُ فِي هَذَا الْفَرْقِ) . قُلْت: مَا حَكَاهُ عَنْ الْعُلَمَاءِ مِنْ أَنَّ الْإِمَامَ إذَا وَجَدَ مَنْ هُوَ أَصْلَحُ لِلْقَضَاءِ عَزَلَ الْمُتَوَلِّيَ يَنْبَغِي أَنْ يُحْمَلَ عَلَى أَنَّ الْمُتَوَلِّيَ مُقَصِّرٌ عَنْ الْأَهْلِيَّةِ لَا عَلَى أَنَّهُ أَهْلٌ، وَلَكِنَّ غَيْرَهُ أَمَسُّ مِنْهُ بِالْأَهْلِيَّةِ، وَدَلِيلُ ذَلِكَ أَنَّ الْمَصْلَحَةَ الْمَقْصُودَةَ مِنْ الْقَضَاءِ تَحْصُلُ مِنْ الْمَفْضُولِ الْمُتَّصِفِ

ــ

[تَهْذِيب الْفُرُوقِ وَالْقَوَاعِدِ السنية فِي الْأَسْرَارِ الْفِقْهِيَّةِ]

مِنْهُ قَالَ تَعَالَى {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ} [الشورى: ٣٠] ظَهَرَ لَك أَنَّ مَا وَقَعَ لِمَالِكٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِيمَنْ تَرَكَ الْإِقَامَةَ أَوْ غَيْرَهَا مِنْ الْمَنْدُوبَاتِ أَنَّهُ يَسْتَغْفِرُ اللَّهَ وَقَدْ اتَّفَقَ الْجَلَّابُ وَالتَّهْذِيبُ عَلَى نَقْلِ ذَلِكَ عَنْهُ هُوَ أَنَّهُ يَتَعَيَّنُ عَلَى الْإِنْسَانِ الِاسْتِغْفَارُ لِأَجْلِ مَا دَلَّ عَلَيْهِ تَرْكُهَا مِنْ ذُنُوبٍ سَالِفَةٍ لَا أَنَّهُ يَعْتَقِدُ أَنَّ الِاسْتِغْفَارَ يُشْرَعُ فِي تَرْكِ الْمَنْدُوبَاتِ وَظَهَرَ أَنَّ الْفَرْقَ بَيْنَ هَاتَيْنِ الْقَاعِدَتَيْنِ هُوَ أَنَّ الِاسْتِغْفَارَ فِي تَرْكِ الْمُحَرَّمَاتِ وَتَرْكِ الْوَاجِبَاتِ لِأَجْلِهَا مُطَابَقَةٌ وَفِي تَرْكِ الْمَنْدُوبَاتِ لِأَجْلِ مَا دَلَّتْ عَلَيْهِ بِطَرِيقِ الِالْتِزَامِ لَا أَنَّهُ لَهَا مُطَابَقَةٌ وَبِهِ يَنْحَلُّ كُلُّ إشْكَالٍ يَرِدُ عَلَى مَا وَقَعَ لِلْعُلَمَاءِ مِنْ ذِكْرِ الِاسْتِغْفَارِ عَنْ تَرْكِ الْمَنْدُوبَاتِ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ

[الْفَرْقُ بَيْنَ قَاعِدَةِ النِّسْيَانِ فِي الْعِبَادَاتِ لَا يَقْدَحُ وَقَاعِدَةِ الْجَهْلِ يَقْدَحُ]

الْفَرْقُ الثَّالِثُ وَالتِّسْعُونَ بَيْنَ قَاعِدَةِ النِّسْيَانِ فِي الْعِبَادَاتِ لَا يَقْدَحُ وَقَاعِدَةِ الْجَهْلِ يَقْدَحُ وَكِلَاهُمَا غَيْرُ عَالِمٍ بِمَا أَقْدَمَ عَلَيْهِ)

الْجَهْلُ وَالنِّسْيَانُ وَإِنْ اشْتَرَكَا فِي أَنَّ الْمُتَّصِفَ بِوَاحِدٍ مِنْهُمَا غَيْرُ عَالِمٍ بِمَا أَقْدَمَ عَلَيْهِ إلَّا أَنَّهُ يُفَرَّقُ بَيْنَهُمَا مِنْ جِهَتَيْنِ الْجِهَةُ الْأُولَى أَنَّ النِّسْيَانَ يَهْجُمُ عَلَى الْعَبْدِ قَهْرًا بِحَيْثُ لَا تَكُونُ لَهُ حِيلَةٌ فِي دَفْعِهِ عَنْهُ بِخِلَافِ الْجَهْلِ فَإِنَّ لَهُ حِيلَةً فِي دَفْعِهِ بِالتَّعَلُّمِ الْجِهَةُ الثَّانِيَةُ أَنَّ الْأُمَّةَ قَدْ أَجْمَعَتْ عَلَى أَنَّ النِّسْيَانَ لَا إثْمَ فِيهِ مِنْ حَيْثُ الْجُمْلَةِ وَدَلَّ قَوْلُهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «رُفِعَ عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأُ وَالنِّسْيَانُ وَمَا اُسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ» عَلَى أَنَّ النَّاسِيَ مَعْفُوٌّ عَنْهُ.

وَأَمَّا الْجَهْلُ فَلَيْسَ كَذَلِكَ لِأَنَّ مِنْ الْقَاعِدَةِ الَّتِي حَكَى الْغَزَالِيُّ فِي إحْيَاءِ عُلُومِ الدِّينِ وَالشَّافِعِيُّ فِي رِسَالَتِهِ الْإِجْمَاعَ عَلَيْهَا مِنْ أَنَّ الْمُكَلَّفَ لَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يُقْدِمَ عَلَى فِعْلٍ حَتَّى يَعْلَمَ حُكْمَ اللَّهِ تَعَالَى فِيهِ، وَيَدُلُّ عَلَيْهَا مِنْ جِهَةِ الْقُرْآنِ قَوْله تَعَالَى حِكَايَةً عَنْ نُوحٍ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - {إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ} [هود: ٤٧] إذْ مَعْنَاهُ مَا لَيْسَ لِي بِجَوَازِ سُؤَالِهِ عِلْمٌ وَذَلِكَ أَنَّهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لَمَّا عُوتِبَ عَلَى سُؤَالِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ لِابْنِهِ أَنْ يَكُونَ مَعَهُ فِي السَّفِينَةِ لِكَوْنِهِ سَأَلَ قَبْلَ الْعِلْمِ بِحَالِ الْوَلَدِ، وَأَنَّهُ مِمَّا يَنْبَغِي طَلَبُهُ أَمْ لَا.

وَأَجَابَ بِمَا ذُكِرَ كَانَ كِلَا الْعَتْبِ وَالْجَوَابِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ تَقْدِيمِ الْعِلْمِ بِمَا يُرِيدُ الْإِنْسَانُ أَنْ يَشْرَعَ فِيهِ، وَكَذَا قَوْله تَعَالَى {وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} [الإسراء: ٣٦] حَيْثُ نَهَى اللَّهُ تَعَالَى نَبِيَّهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - عَنْ اتِّبَاعِ غَيْرِ الْمَعْلُومِ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ الشُّرُوعُ فِي شَيْءٍ حَتَّى يَعْلَمَ، وَكَذَا قَوْلُهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «طَلَبُ الْعِلْمِ فَرِيضَةٌ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ» يُعْلَمُ أَنَّ طَلَبَ الْعِلْمِ وَاجِبٌ عَيْنًا فِي كُلِّ حَالَةٍ يُقْدِمُ عَلَيْهَا الْإِنْسَانُ فَمَنْ بَاعَ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَتَعَلَّمَ مَا عَيَّنَهُ اللَّهُ وَشَرَعَهُ فِي الْبَيْعِ، وَمَنْ آجَرَ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَتَعَلَّمَ حُكْمَ اللَّهِ تَعَالَى فِي الْإِجَارَةِ، وَمَنْ قَارَضَ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَتَعَلَّمَ حُكْمَ اللَّهِ تَعَالَى فِي الْقِرَاضِ وَمَنْ صَلَّى يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَتَعَلَّمَ حُكْمَ اللَّهِ تَعَالَى فِي تِلْكَ الصَّلَاةِ، وَهَكَذَا الطَّهَارَةُ وَجَمِيعُ الْأَقْوَالِ وَالْأَعْمَالِ فَمَنْ تَعَلَّمَ وَعَمِلَ بِمُقْتَضَى مَا عَلِمَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ تَعَالَى طَاعَتَيْنِ، وَمَنْ لَمْ يَعْمَلْ فَقَدْ عَصَى اللَّهَ مَعْصِيَتَيْنِ، وَمَنْ عَلِمَ وَلَمْ يَعْمَلْ بِمُقْتَضَى عِلْمِهِ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ تَعَالَى طَاعَةً وَعَصَاهُ مَعْصِيَةً فَمِنْ هُنَا قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - طَلَبُ الْعِلْمِ قِسْمَانِ فَرْضُ عَيْنٍ وَفَرْضُ كِفَايَةٍ، فَفَرْضُ الْعَيْنِ عِلْمُك بِحَالَتِك الَّتِي أَنْتَ فِيهَا وَفَرْضُ الْكِفَايَةِ مَا عَدَا ذَلِكَ.

وَقَالَ مَالِكٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - إنَّ الْجَهْلَ فِي الصَّلَاةِ كَالْعَمْدِ، وَالْجَاهِلُ كَالْمُتَعَمِّدِ لَا كَالنَّاسِي بَلْ قَالَ الْعَلَّامَةُ الْأَمِيرُ فِي شَرْحِهِ عَلَى نَظْمِ بَهْرَامَ فِيمَا لَا يُعْذَرُ فِيهَا بِالْجَهْلِ لِلْقَاعِدَةِ أَنَّ الْجَاهِلَ فِي

<<  <  ج: ص:  >  >>