للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

إذَا تَقَرَّرَ ذَلِكَ فَيَجِبُ عَلَيْنَا أُمُورٌ أَحَدُهَا أَنْ نَعْتَقِدَ أَنَّ مَالِكًا أَوْ غَيْرَهُ مِنْ الْعُلَمَاءِ إنَّمَا أَفْتَى فِي هَذِهِ الْأَلْفَاظِ بِهَذِهِ الْأَحْكَامِ؛ لِأَنَّ زَمَانَهُمْ كَانَ فِيهِ عَوَائِدُ اقْتَضَتْ نَقْلَ هَذِهِ الْأَلْفَاظِ لِلْمَعَانِي الَّتِي أَفْتَوْا بِهَا فِيهَا صَوْنًا لَهُمْ عَنْ الزَّلَلِ، وَثَانِيهَا أَنَّا إذَا وَجَدْنَا زَمَانَنَا عَرِيًّا عَنْ ذَلِكَ وَجَبَ عَلَيْنَا أَنْ لَا نُفْتِيَ بِتِلْكَ الْأَحْكَامِ فِي هَذِهِ الْأَلْفَاظِ؛ لِأَنَّ انْتِقَالَ الْعَوَائِدِ يُوجِبُ انْتِقَالَ الْأَحْكَامِ كَمَا نَقُولُ فِي النُّقُودِ وَفِي غَيْرِهَا فَإِنَّا نُفْتِي فِي زَمَانٍ مُعَيَّنٍ بِأَنَّ الْمُشْتَرِيَ تَلْزَمُهُ سِكَّةٌ مُعَيَّنَةٌ مِنْ النُّقُودِ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ؛ لِأَنَّ تِلْكَ السِّكَّةَ هِيَ الَّتِي جَرَتْ الْعَادَةُ بِالْمُعَامَلَةِ بِهَا فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ فَإِذَا وَجَدْنَا بَلَدًا آخَرَ وَزَمَانًا آخَرَ يَقَعُ التَّعَامُلُ فِيهِ بِغَيْرِ تِلْكَ السِّكَّةِ تَغَيَّرَتْ الْفُتْيَا إلَى السِّكَّةِ الثَّانِيَةِ، وَحَرُمَتْ الْفُتْيَا بِالْأُولَى لِأَجْلِ تَغَيُّرِ الْعَادَةِ.

وَكَذَلِكَ الْقَوْلُ فِي نَفَقَاتِ الزَّوْجَاتِ وَالذُّرِّيَّةِ وَالْأَقَارِبِ وَكِسْوَتِهِمْ تَخْتَلِفُ بِحَسَبِ الْعَوَائِدِ، وَتَنْتَقِلُ الْفَتْوَى فِيهَا وَتَحْرُمُ الْفَتْوَى بِغَيْرِ الْعَادَةِ الْحَاضِرَةِ، وَكَذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَوَارِيِّ بِالْعَوَائِدِ وَقَبْضُ الصَّدَقَاتِ عِنْدَ الدُّخُولِ أَوْ قَبْلَهُ أَوْ بَعْدَهُ فِي عَادَةٍ نُفْتِي أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ الزَّوْجِ فِي الْإِقْبَاضِ؛ لِأَنَّهُ الْعَادَةُ وَتَارَةً بِأَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ الْمَرْأَةِ فِي عَدَمِ الْقَبْضِ إذَا تَغَيَّرَتْ الْعَادَةُ أَوْ كَانُوا مِنْ أَهْلِ بَلَدٍ ذَلِكَ عَادَتُهُمْ، وَتَحْرُمُ الْفُتْيَا لَهُمْ بِغَيْرِ عَادَتِهِمْ وَمَنْ أَفْتَى بِغَيْرِ ذَلِكَ كَانَ خَارِقًا لِلْإِجْمَاعِ فَإِنَّ الْفُتْيَا بِغَيْرِ مُسْتَنَدٍ مُجْمَعٌ عَلَى تَحْرِيمِهَا، وَكَذَلِكَ التَّلَوُّمُ لِلْخُصُومِ فِي تَحْصِيلِ الدُّيُونِ لِلْغُرَمَاءِ وَغَيْرُ ذَلِكَ مِمَّا هُوَ مَبْنِيٌّ عَلَى الْعَوَائِدِ مِمَّا لَا يُحْصَى عَدَدُهُ مَتَى تَغَيَّرَتْ فِيهِ الْعَادَةُ تَغَيَّرَ الْحُكْمُ بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ، وَحَرُمَتْ الْفُتْيَا بِالْأَوَّلِ وَإِذَا وَضَحَ لَكَ ذَلِكَ اتَّضَحَ لَكَ أَنَّ مَا عَلَيْهِ الْمَالِكِيَّةُ وَغَيْرُهُمْ مِنْ الْفُقَهَاءِ مِنْ الْفُتْيَا مِنْ هَذِهِ الْأَلْفَاظِ بِالطَّلَاقِ الثَّلَاثِ هُوَ خِلَافُ الْإِجْمَاعِ، وَأَنَّ مَنْ تَوَقَّفَ مِنْهُمْ عَنْ ذَلِكَ وَلَمْ يُجْرِ الْمَسْطُورَاتِ فِي الْكُتُبِ عَلَى مَا هِيَ عَلَيْهِ بَلْ لَاحَظَ تَنَقُّلَ الْعَوَائِدِ فِي ذَلِكَ أَنَّهُ عَلَى الصَّوَابِ سَالِمٌ مِنْ هَذِهِ الْوَرْطَةِ الْعَظِيمَةِ فَتَأَمَّلْ ذَلِكَ

ــ

[حاشية ابن الشاط = إدْرَار الشُّرُوقِ عَلَى أَنْوَاءِ الْفُرُوقِ]

قُلْتُ قَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ الْمُعْتَمَدَ فِي قَاعِدَةِ الْعُقُودِ كُلِّهَا الْقَصْدُ إلَيْهَا مَعَ اللَّفْظِ الْمُشْعِرِ بِهَا، وَإِشْعَارُ اللَّفْظِ لُغَوِيٌّ أَصْلِيٌّ أَوْ لُغَوِيٌّ عُرْفِيٌّ أَوْ شَرْعِيٌّ أَوْ عُرْفِيٌّ حَادِثٌ وَقْتِيٌّ فَفِي الْفَتْوَى الْمُعْتَبَرُ النِّيَّةُ فَإِنْ لَمْ تَكُنْ فَالْوَقْتِيُّ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ فَالشَّرْعِيُّ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فَاللُّغَوِيُّ الْعُرْفِيُّ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فَاللُّغَوِيُّ الْأَصْلِيُّ، فَإِنْ اجْتَمَعَ فِي اللَّفْظِ الْأَصْلِيُّ وَالْعُرْفِيُّ وَالشَّرْعِيُّ وَالْوَقْتِيُّ فَالْمُعْتَبَرُ الْوَقْتِيُّ، وَفِي الْحُكْمِ لَا تُعْتَبَرُ النِّيَّةُ وَيُعْتَبَرُ عَلَى مَا عَدَاهَا عَلَى ذَلِكَ التَّرْتِيبِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

قَالَ شِهَابُ الدِّينِ (إذَا تَقَرَّرَ ذَلِكَ فَيَجِبُ عَلَيْنَا أُمُورٌ أَحَدُهَا أَنْ نَعْتَقِدَ أَنَّ مَالِكًا أَوْ غَيْرَهُ مِنْ الْعُلَمَاءِ إنَّمَا أَفْتَى فِي هَذِهِ الْأَلْفَاظِ بِهَذِهِ الْأَحْكَامِ إلَى قَوْلِهِ: تَغَيَّرَ الْحُكْمُ بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ وَحَرُمَتْ الْفُتْيَا بِالْأُولَى) قُلْتُ مَا قَالَهُ ظَاهِرٌ صَحِيحٌ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

قَالَ شِهَابُ الدِّينِ (وَإِذَا وَضَحَ لَكَ ذَلِكَ اتَّضَحَ لَكَ أَنَّ مَا عَلَيْهِ الْمَالِكِيَّةُ وَغَيْرُهُمْ مِنْ الْفُقَهَاءِ فِي هَذِهِ الْأَلْفَاظِ مِنْ الْفُتْيَا بِالطَّلَاقِ الثَّلَاثِ هُوَ خِلَافُ الْإِجْمَاعِ إلَى قَوْلِهِ فَتَأَمَّلْ ذَلِكَ) قُلْتُ الْمُسْتَعْمِلُ لِهَذِهِ الْأَلْفَاظِ إنْ كَانَ اسْتِعْمَالُهُ إيَّاهَا وَفِيهَا عُرْفٌ وَقْتِيٌّ لَزِمَ حَمْلُهَا عَلَيْهِ، وَإِلَّا فَعَلَى الشَّرْعِيِّ وَإِلَّا فَعَلَى الْعُرْفِيِّ وَإِلَّا فَعَلَى اللُّغَوِيِّ، فَإِنْ أَفْتَى الْفَقِيهُ الْوَقْتِيُّ بِهَذَا التَّرْتِيبِ عِنْدَ وُجُودِ الْعُرْفِيِّ الْوَقْتِيِّ فَهُوَ مُصِيبٌ، وَإِنْ أَفْتَى عِنْدَ وُجُودِ الْعُرْفِيِّ الْوَقْتِيِّ بِاعْتِبَارِ الْعُرْفِ الشَّرْعِيِّ أَوْ اللُّغَوِيِّ الْعُرْفِيِّ أَوْ اللُّغَوِيِّ الْأَصْلِيِّ وَأَلْغَى الْعُرْفَ الْوَقْتِيَّ فَهُوَ مُخْطِئٌ

ــ

[تَهْذِيب الْفُرُوقِ وَالْقَوَاعِدِ السنية فِي الْأَسْرَارِ الْفِقْهِيَّةِ]

الْقِيَاسَ عَلَى مَا ذَكَرُوهُ وَلَا فِيهَا آيَةٌ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى تَقْتَضِي أَكْثَرَ مِمَّا قَالَهُ الْقَائِلُونَ بِالْكَفَّارَةِ الَّتِي دَلَّتْ عَلَيْهَا آيَةُ التَّحْرِيمِ، وَلَمْ نَجِدْ أَحَدًا مِنْ الْعُلَمَاءِ فِي كُتُبِ الْفِقْهِ وَالْخِلَافِ رَوَى فِي هَذِهِ الْأَحْكَامِ حَدِيثًا عَنْ أَحَدٍ مِنْ الصَّحَابَةِ أَوْ التَّابِعِينَ، وَقَدْ وَقَعَتْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ بَيْنَهُمْ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ - بِلَا شُبْهَةٍ.

وَثَانِيهِمَا أَنَّ قَاعِدَةَ الْفُقَهَاءِ وَعَوَائِدَ الْفُضَلَاءِ أَنَّهُمْ يَجْعَلُونَ مَا ظَفِرُوا بِهِ وَفَقَدُوا غَيْرَهُ مِنْ الْمُدْرَكِ الْمُنَاسِبِ لِلْفَرْعِ مُعْتَمِدًا لِذَلِكَ الْفَرْعِ فِي حَقِّ الْإِمَامِ الْمُجْتَهِدِ الْأَوَّلِ الَّذِي أَفْتَى بِذَلِكَ الْفَرْعِ وَفِي حَقِّهِمْ أَيْضًا فِي الْفُتْيَا وَالتَّخْرِيجِ، وَنَحْنُ قَدْ اسْتَقْرَأْنَا هَذِهِ الْمَسَائِلَ فَلَمْ نَجِدْ لَهَا مُدْرَكًا مُنَاسِبًا إلَّا اعْتِبَارَ الْعُرْفِيِّ الْوَقْتِيِّ إلَخْ فَوَجَبَ جَعْلُ ذَلِكَ مُدْرَكَ الْأَئِمَّةِ إفْتَاءً وَتَخْرِيجًا وَعَدَمَ الْعُدُولِ عَنْ ذَلِكَ كَمَا يَشْهَدُ لِذَلِكَ أَنَّ مِمَّا أَجْمَعَ عَلَيْهِ الْفُقَهَاءُ الْقَيَّاسُونَ وَأَهْلُ النَّظَرِ وَالرَّأْيِ وَالِاعْتِبَارِ أَنَّا فِي كَلَامِ الشَّرْعِ إذَا ظَفِرْنَا بِالْمُنَاسَبَةِ جَزَمْنَا بِإِضَافَةِ الْحُكْمِ إلَيْهَا مَعَ تَجْوِيزِ أَنْ لَا يَكُونَ الْحُكْمُ كَذَلِكَ عَقْلًا؛ لِأَنَّ الِاسْتِقْرَاءَ أَوْجَبَ لَنَا أَنْ لَا نَعْرُجَ عَلَى غَيْرِ مَا وَجَدْنَاهُ وَلَا نَلْتَزِمَ التَّعَبُّدَ مَعَ وُجُودِ الْمُنَاسِبِ فَأَوْلَى أَنْ نَفْعَلَ ذَلِكَ فِي كَلَامِ غَيْرِ صَاحِبِ الشَّرِيعَةِ بَلْ نَحْمِلُ كَلَامَ الْعُلَمَاءِ عَلَى الْمُنَاسِبِ لِتِلْكَ الْفَتَاوَى السَّالِمِ عَنْ الْمُعَارِضِ نَعَمْ إذَا وَجَدْنَا مُنَاسَبَيْنِ تَعَارَضَا أَوْ مُدْرَكَيْنِ تَقَابَلَا فَحِينَئِذٍ يَحْسُنُ التَّوَقُّفُ.

وَأَمَّا الْإِجْمَاعُ فَقَدْ قَدَّمْنَا لَك كَلَامَ الْإِمَامِ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ الْمَازِرِيِّ إمَامِ الْفِقْهِ وَأُصُولِهِ وَحَافِظٍ مُتْقِنٍ لِعِلْمِ الْحَدِيثِ وَفُنُونِهِ وَلَهُ فِي جَمِيعِ ذَلِكَ الْيَدُ الْبَيْضَاءُ وَالرُّتْبَةُ الْعَالِيَةُ الْمُفِيدُ أَنَّ سَبَبَ الْخِلَافِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مَا ذُكِرَ فَكَفَى بِهِ قُدْوَةً فِي مُدْرَكِ هَذِهِ الْفُرُوعِ وَمُتَعَمَّدًا فِي ضَوَابِطِهَا وَتَلْخِيصِهَا وَقَدْ تَابَعَهُ عَلَى ذَلِكَ جَمَاعَةٌ مِنْ الشُّيُوخِ وَالْمُصَنِّفِينَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُمْ مُخَالِفًا فَكَانَ ذَلِكَ إجْمَاعًا مِنْ أَئِمَّةِ الْمَذْهَبِ، فَالتَّشْكِيكُ بَعْدَ ذَلِكَ إنَّمَا هُوَ طَلَبٌ لِلْجَهْلِ الْوَبِيلِ وَسَبِيلٌ لِغِوَايَةِ التَّضْلِيلِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

[الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ الْإِنْشَاءَ كَمَا يَكُونُ بِالْكَلَامِ اللِّسَانِيِّ يَكُونُ بِالْكَلَامِ النَّفْسَانِيِّ]

(الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ) يَكُونُ الْإِنْشَاءُ بِالْكَلَامِ النَّفْسَانِيِّ كَمَا يَكُونُ بِالْكَلَامِ اللِّسَانِيِّ وَلِذَلِكَ ثَلَاثُ صُوَرٍ: الصُّورَةُ الْأُولَى الْأَسْبَابُ وَالشُّرُوطُ وَالْمَوَانِعُ الشَّرْعِيَّةُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى فِي إفْرَادِهَا وَمَا وَرَدَ مِنْ الْكِتَابِ

<<  <  ج: ص:  >  >>