للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

إلَى قَوْلِهِ ظَلُومًا جَهُولًا قَالَ الْعُلَمَاءُ مَعْنَاهُ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى عَرَضَ التَّكَالِيفَ عَلَى السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ وَقَالَ لَهُنَّ إنْ حَمَلْتُنَّ التَّكَالِيفَ وَأَطَعْتُنَّ فَلَكُنَّ الثَّوَابُ الْجَزِيلُ وَإِنْ عَصَيْتُنَّ فَعَلَيْكُنَّ الْعَذَابُ الْوَبِيلُ فَقُلْنَ لَا نَعْدِلُ بِالسَّلَامَةِ شَيْئًا ثُمَّ عُرِضَتْ عَلَى الْإِنْسَانِ فَالْتَزَمَ ذَلِكَ فَأَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُ كَانَ ظَلُومًا لِنَفْسِهِ جَهُولًا بِالْعَوَاقِبِ فَلَا جَرَمَ هَلَكَ مِنْ كُلِّ أَلْفٍ تِسْعُمِائَةٍ وَتِسْعَةٌ وَتِسْعُونَ وَسَلِمَ مِنْ كُلِّ أَلْفٍ وَاحِدٌ كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ وَالْكَلَامُ الْقَدِيمُ صِفَةُ اللَّهِ تَعَالَى وَهَذَا أَيْضًا يَتْبَعُ الْعُرْفَ وَالْعَادَةَ فَإِذَا جَاءَ عُرْفٌ آخَرُ يُشْتَهَرُ فِيهِ هَذَا اللَّفْظُ فِي الْأَمَانَةِ الْمَأْمُورِ بِهَا الَّتِي هِيَ فِعْلُنَا فِي حِفْظِ الْوَدَائِعِ وَغَيْرِهَا مِنْ الْأَمَانَاتِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} [النساء: ٥٨] وَيَكُونُ ذَلِكَ عُرْفُ قُطْرٍ مِنْ الْأَقْطَارِ الْآنَ فَإِنَّ الْحَلِفَ حِينَئِذٍ بِهَا مِنْ غَيْرِ نِيَّةٍ تَصْرِفُ اللَّفْظَ لِلْأَمَانَةِ الْقَدِيمَةِ لَا يَجُوزُ أَوْ يُكْرَهُ عَلَى الْخِلَافِ.

وَإِذَا كَانَتْ مُشْتَهِرَةً فِي الْقَدِيمِ وَصَرَفَهَا الْحَالِفُ بِالنِّيَّةِ إلَى الْحَادِثِ امْتَنَعَ الْحَلِفُ وَسَقَطَتْ الْكَفَّارَةُ فَهَذَا مَعْنَى هَذَا اللَّفْظِ وَضَابِطُهُ اللَّفْظُ الثَّانِي قَوْلُنَا عَمْرُ اللَّهِ وَلَعَمْرُ اللَّهِ مَعْنَى هَذَيْنِ اللَّفْظَيْنِ الْبَقَاءُ فَبَقَاءُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ اسْتِمْرَارُ وُجُودِهِ مَعَ الْأَزْمَانِ فَوُجُودُهُ ذَاتُهُ تَعَالَى فَهُوَ قَدِيمٌ يَجُوزُ الْحَلِفُ بِهِ وَتَلْزَمُ بِهِ الْكَفَّارَةُ فَإِنْ قُلْت الْبَقَاءُ وَالْعَمْرُ وَنَحْوُهُمَا مِنْ الْأَلْفَاظِ لِاسْتِمْرَارِ الْوُجُودِ مَعَ الْأَزْمِنَةِ كَمَا تَقَدَّمَ وَاسْتِمْرَارُ وُجُودِ الشَّيْءِ مَعَ الْأَزْمِنَةِ نِسْبَةٌ بَيْنَ وُجُودِ الشَّيْءِ وَالزَّمَانِ وَالنِّسْبَةُ أَمْرٌ عَدَمِيٌّ فَإِذَا قُلْنَا بِجَوَازِ الْحَلِفِ بِعَمْرِ اللَّهِ وَهُوَ بَقَاؤُهُ وَلُزُومُ الْكَفَّارَةِ بِهِ لَزِمَنَا أَنْ نَقُولَ بِجَوَازِ الْحَلِفِ بِقِبْلِيَّةِ اللَّهِ تَعَالَى وَبُعْدِيَّتِهِ وَمَعِيَّتِه فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَبْلَ كُلِّ حَادِثٍ وَمَعَ كُلِّ حَادِثٍ وَبَعْدَ كُلِّ حَادِثٍ إذَا فَنِيَ ذَلِكَ الْحَادِثُ وَمَا هُوَ قَابِلٌ لِلتَّجَدُّدِ كَالْبَعْدِيَّةِ وَالْمَعِيَّةِ أَوْ الْفِنَاءِ كَالْقَبْلِيَّةِ كَيْفَ يَجُوزُ الْحَلِفُ بِهِ وَكَيْفَ تَلْزَمُ بِهِ

ــ

[حاشية ابن الشاط = إدْرَار الشُّرُوقِ عَلَى أَنْوَاءِ الْفُرُوقِ]

قَالَ (فَإِنْ قُلْت الْبَقَاءُ وَالْعُمُرُ وَنَحْوُهُمَا مِنْ الْأَلْفَاظِ لِاسْتِمْرَارِ الْوُجُودِ مَعَ الْأَزْمِنَةِ كَمَا تَقَدَّمَ إلَى آخِرِ مَا أَجَابَ بِهِ عَنْ هَذَا السُّؤَالِ) قُلْت كَيْفَ يَقُولُ مَتَى أَرَادَ الْحَالِفُ تِلْكَ النِّسْبَةَ الَّتِي هِيَ مَدْلُولُ اللَّفْظِ امْتَنَعَ وَسَقَطَتْ الْكَفَّارَةُ بِنَاءً عَلَى تَسْلِيمِ أَنَّ الْمَقْصُودَ بِذَلِكَ اللَّفْظِ أَمْرٌ عَدَمِيٌّ لِأَنَّهُ نِسْبَةٌ وَالنِّسْبَةُ عَدَمِيَّةٌ وَقَدْ قَالَ بَعْدَ هَذَا فِي الْفَرْقِ السَّادِسِ وَالْعِشْرِينَ وَفِي الْقِسْمِ الثَّالِثِ مِنْ الصِّفَاتِ إنَّ الْوَحْدَانِيَّةَ سَلْبُ الشَّرِيكِ وَاخْتَارَ انْعِقَادَ الْيَمِينِ بِهَا

وَكَذَلِكَ اخْتَارَهُ فِي تَسْبِيحِ اللَّهِ تَعَالَى وَتَقْدِيسِهِ وَعَلَّلَ ذَلِكَ بِكَوْنِهَا سُلُوبًا قَدِيمَةً فَكَانَ حَقُّهُ أَنْ يَلْتَزِمَ مِثْلَ ذَلِكَ فِي الْقَبْلِيَّةِ وَالْمَعِيَّةِ وَالْبَعْدِيَّةِ لِكَوْنِهَا أَيْضًا سُلُوبًا قَدِيمَةً لِأَنَّهَا نِسَبٌ وَالنِّسَبُ سُلُوبٌ فَمَا قَالَهُ هُنَا لَيْسَ بِالْقَوِيِّ عِنْدِي وَلَا بِالصَّحِيحِ وَالصَّحِيحُ أَنَّ هَذِهِ الْأُمُورَ الْمُضَافَةَ إلَى اللَّهِ تَعَالَى مَتَى عُنِيَ بِهَا أَمْرٌ قَدِيمٌ سَوَاءٌ كَانَتْ إثْبَاتًا أَوْ سَلْبًا فَالْيَمِينُ بِهَا مُنْعَقِدَةٌ وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ وَمَتَى عُنِيَ بِهَا أَمْرٌ حَادِثٌ فَالْيَمِينُ غَيْرُ مُنْعَقِدَةٍ بِهَا وَقَصْدُ الْأَمْرِ الْقَدِيمِ بِهَا هُوَ عُرْفُ الشَّرْعِ وَلَمْ يَحْدُثْ عُرْفٌ يُنَاقِضُهُ فَيَتَغَيَّرُ الْحُكْمُ لِذَلِكَ.

ــ

[تَهْذِيب الْفُرُوقِ وَالْقَوَاعِدِ السنية فِي الْأَسْرَارِ الْفِقْهِيَّةِ]

وَالْإِحْسَانُ إلَيْهِمْ مَأْمُورٌ بِهِ وَوُدُّهُمْ وَتَوَلِّيهِمْ مَنْهِيٌّ عَنْهُ فَهُمَا قَاعِدَتَانِ إحْدَاهُمَا مُحَرَّمَةٌ وَالْأُخْرَى مَأْمُورٌ بِهَا وَقَدْ اتَّضَحَ لَك الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا بِالْبَيَانِ وَالْمَثَلِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

[الْفَرْقُ بَيْنَ قَاعِدَةِ تَخْيِيرِ الْمُكَلَّفِينَ فِي الْكَفَّارَةِ وَبَيْنَ قَاعِدَةِ تَخْيِيرِ الْأَئِمَّةِ فِي الْأُسَارَى وَالتَّعْزِيرِ وَحَدِّ الْمُحَارِبِ]

(الْفَرْقُ الْعِشْرُونَ وَالْمِائَةُ بَيْنَ قَاعِدَةِ تَخْيِيرِ الْمُكَلَّفِينَ فِي الْكَفَّارَةِ وَبَيْنَ قَاعِدَةِ تَخْيِيرِ الْأَئِمَّةِ فِي الْأُسَارَى وَالتَّعْزِيرِ وَحَدِّ الْمُحَارِبِ وَنَحْوِ ذَلِكَ)

اعْلَمْ رَحِمَك اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ التَّخْيِيرَ فِي الشَّرِيعَةِ يُطْلَقُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ

(الْأَوَّلُ) تَخْيِيرٌ بَيْنَ شَيْئَيْنِ يَتَّصِفَانِ بِالْوُجُوبِ مِنْ جِهَةِ خُصُوصِهِمَا وَعُمُومِهِمَا مَعًا وَهَذَا هُوَ الْغَالِبُ فِي تَخْيِيرِ الْأَئِمَّةِ وَلَهُ مُثُلٌ

(مِنْهَا) تَخْيِيرُ الْإِمَامِ بَيْنَ الْخِصَالِ الْخَمْسِ فِي حَقِّ الْأُسَارَى عِنْدَ مَالِكٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَمَنْ وَافَقَهُ وَهِيَ الْقَتْلُ وَالِاسْتِرْقَاقُ وَالْمَنُّ وَالْفِدَاءُ وَالْجِزْيَةُ فَإِنَّ كُلَّ وَاحِدٍ يَفْعَلُهُ مِنْهَا يَقَعُ وَاجِبًا بِخُصُوصِهِ وَهُوَ كَوْنُهُ قَتْلًا أَوْ فِدَاءً مَثَلًا وَبِعُمُومِهِ مِنْ جِهَةِ أَنَّهُ أَحَدُ الْخِصَالِ الْخَمْسَةِ وَذَلِكَ أَنَّ الْإِمَامَ لَيْسَ لَهُ فِعْلُ أَحَدِهَا بِهَوَاهُ بَلْ يَجِبُ عَلَيْهِ بَذْلُ الْجَهْدِ فِيمَا هُوَ أَصْلَحُ لِلْمُسْلِمِينَ فَإِذَا فَكَّرَ وَاسْتَوْعَبَ فِكْرَهُ فِي وُجُوهِ الْمَصَالِحِ وَوَجَدَ بَعْدَ ذَلِكَ مَصْلَحَةً هِيَ أَرْجَحُ لِلْمُسْلِمِينَ وَجَبَ عَلَيْهِ فِعْلُهَا فَمَنْ كَانَ مِنْ الْأُسَارَى شَدِيدَ الدَّهَاءِ كَثِيرَ التَّأْلِيبِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ بِرَأْيِهِ وَدَهَائِهِ فَالْوَاجِبُ عَلَى الْإِمَامِ فِيهِ الْقَتْلُ إذَا ظَهَرَ لَهُ ذَلِكَ مِنْهُ فِي اجْتِهَادِهِ بِالسُّؤَالِ عَنْ أَخْبَارِهِ وَأَحْوَالِهِ وَمَا يَتَّصِلُ بِهِ مِنْ سِيرَتِهِ وَمَنْ كَانَ مِنْهُمْ لَيْسَ مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ بَلْ هُوَ مَأْمُونُ الْغَائِلَةِ فَإِنْ ظَهَرَ لَهُ مِنْهُ أَنَّهُ بِإِطْلَاقِهِ تَتَأَلَّفُ طَائِفَةٌ كَثِيرَةٌ عَلَى الْإِسْلَامِ أَوْ يَحْصُلُ إطْلَاقُ خَلْقٍ كَثِيرٍ مِنْ أُسَارَى الْمُسْلِمِينَ كَانَ الْوَاجِبُ عَلَى الْإِمَامِ فِيهِ الْمَنُّ وَإِنْ ظَهَرَ لَهُ مِنْهُ أَنَّهُ لَا يُرْتَجَى مِنْ إطْلَاقِهِ ذَلِكَ وَالْإِمَامُ مُحْتَاجٌ لِلْمَالِ لِمَصَالِحِ الْغَزْوِ وَغَيْرِهِ وَجَبَ عَلَيْهِ الْفِدَاءُ بِالْمَالِ أَوْ الْمُسْلِمُونَ مُحْتَاجُونَ إلَى مَنْ يَخْدُمُهُمْ وَجَبَ عَلَيْهِ اسْتِرْقَاقُهُمْ.

وَإِنْ رَأَى انْتِفَاءَ هَذِهِ الْوُجُوهِ كُلِّهَا وَلَمْ يَجِدْ فِي اجْتِهَادِهِ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ مَصْلَحَةً بَلْ رَأَى الْمَصْلَحَةَ فِي ضَرْبِ الْجِزْيَةِ لِمَا يَتَوَقَّعُ مِنْ إسْلَامِهِمْ وَأَنَّهُمْ قَرِيبُونَ مِنْ الْإِسْلَامِ إذَا اطَّلَعُوا عَلَى مَحَاسِنِ الْإِسْلَامِ وَشَعَائِرِهِ بِمُخَالَطَةِ أَهْلِهِ وَجَبَ عَلَيْهِ حِينَئِذٍ ضَرْبُ الْجِزْيَةِ عَلَيْهِمْ وَلَا يَجُوزُ لَهُ

<<  <  ج: ص:  >  >>