للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

إلَّا بِالنِّيَّةِ؛ لِأَنَّ لَفْظَ التَّخْيِيرِ يَحْتَمِلُ التَّخْيِيرَ فِي الطَّلَاقِ وَغَيْرَهُ فَإِنْ أَرَادَ الطَّلَاقَ فَيَحْتَمِلُ الْوَحْدَةَ وَالْكَثْرَةَ وَالْأَصْلُ بَقَاءُ الْعِصْمَةِ حَتَّى يَنْوِيَ، وَقَدْ اعْتَمَدَ الْأَصْحَابُ عَلَى مَدَارِكَ

(أَحَدُهَا) قَوْله تَعَالَى {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا} [الأحزاب: ٢٨] الْآيَةَ قَالُوا هَذِهِ الْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى الْبَيُونَةِ بِالثَّلَاثِ، وَقَدْ أَجَابَ اللَّخْمِيُّ مِنْ أَصْحَابِنَا عَنْهَا بِأَرْبَعَةِ أَوْجُهٍ

(أَحَدُهَا) أَنَّهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - كَانَ الْمُطَلِّقُ لَا النِّسَاءُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلا} [الأحزاب: ٢٨]

وَثَانِيهَا سَلَّمْنَا أَنَّ الْأَزْوَاجَ كُنَّ اللَّائِي طُلِّقْنَ لَكِنَّ السَّرَاحَ لَا يُوجِبُ إلَّا وَاحِدَةً كَمَا لَوْ قَالَ سَرَّحْتُك

(وَثَالِثُهَا) سَلَّمْنَا أَنَّهُ الثَّلَاثُ لَكِنَّهُ مُخْتَصٌّ بِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -؛ لِأَنَّ تَحْرِيمَ الطَّلَاقِ الثَّلَاثِ مُعَلَّلٌ بِالنَّدَمِ وَهُوَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أَمْلَكُ لِنَفْسِهِ مِنَّا

(وَرَابِعُهَا) أَنَّ التَّخْيِيرَ إنَّمَا كَانَ بَيْنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالدَّارِ الْآخِرَةِ

(وَثَانِيهَا) أَنَّ إحْدَى نِسَائِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - اخْتَارَتْ نَفْسَهَا فَكَانَتْ أَلْبَتَّةَ فَكَانَ ذَلِكَ أَصْلًا فِي الْخِيَارِ قَالَ اللَّخْمِيُّ وَهُوَ غَيْرُ صَحِيحٍ وَاَلَّذِي فِي الصَّحِيحَيْنِ أَنَّ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قَالَتْ إنِّي أُرِيدُ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ، ثُمَّ فَعَلَ أَزْوَاجُهُ مِثْلَ ذَلِكَ

(وَثَالِثُهَا) أَنَّ الْمَفْهُومَ مِنْ هَذَا اللَّفْظِ عَادَةً إنَّمَا هُوَ التَّخْيِيرُ فِي الْكَوْنِ فِي الْعِصْمَةِ أَوْ مُفَارَقَتِهَا هَذَا هُوَ السَّابِقُ لِلْفَهْمِ مِنْ قَوْلِ الْقَائِلِ لِزَوْجَتِهِ خَيَّرْتُك وَالْأَئِمَّةُ الثَّلَاثَةُ يُنَازِعُونَ فِي أَنَّ هَذَا هُوَ الْمَفْهُومُ عَادَةً وَالصَّحِيحُ الَّذِي يَظْهَرُ لِي أَنَّ قَوْلَ الْأَئِمَّةِ هُوَ مُقْتَضَى اللَّفْظِ لُغَةً لَا مِرْيَةَ فِي ذَلِكَ وَإِنَّ مَالِكًا - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَفْتَى بِالثَّلَاثِ وَالْبَيُونَةِ كَمَا تَقَدَّمَ بِنَاءً عَلَى عَادَةٍ كَانَتْ فِي زَمَانِهِ أَوْجَبَتْ نَقْلَ اللَّفْظِ عَنْ مُسَمَّاهُ اللُّغَوِيِّ

ــ

[حاشية ابن الشاط = إدْرَار الشُّرُوقِ عَلَى أَنْوَاءِ الْفُرُوقِ]

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

[تَهْذِيب الْفُرُوقِ وَالْقَوَاعِدِ السنية فِي الْأَسْرَارِ الْفِقْهِيَّةِ]

حَرْفٍ كَانَ فَيُبْقِيهِ فِي نَحْوِ رَمَى يَرْمِي يَاءً تَقُولُ النِّسْوَةُ رَمَيْنَ وَأَنَا قَضَيْت وَفِي نَحْوِ دَعَا يَدْعُو وَاوًا تَقُولُ النِّسْوَةُ دَعَوْنَ وَأَنَا عَفَوْت وَفِي نَحْوِ قَرَأَ يَقْرَأُ هَمْزَةً تَقُولُ النِّسْوَةُ قَرَأْنَ وَأَنَا أَبْرَأْت وَهَكَذَا فَلِذَلِكَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {إِلا أَنْ يَعْفُونَ} [البقرة: ٢٣٧] بِالْوَاوِ وَقَالَ الشَّاعِرُ:

مَنْ كَانَ مَسْرُورًا بِمَصْرَعِ مَالِكٍ ... فَلْيَأْتِ نِسْوَتَنَا بِوَجْهِ نَهَارِ

يَجِدْ النِّسَاءَ حَوَاسِرًا يَنْدُبْنَهُ ... قَدْ قُمْنَ قَبْلَ تَبَلُّجِ الْأَسْحَارِ

قَدْ كُنَّ يُخْبِئْنَ الْوُجُوهَ تَسَتُّرًا ... وَالْآنَ حِينَ بَدَوْنَ لِلنُّظَّارِ

فَمِنْ هُنَا رُوِيَ أَنَّ بَعْضَ الْأُدَبَاءِ لَمَّا دَخَلَ عَلَى بَعْضِ الْخُلَفَاءِ وَأَنْشَدَهُ هَذِهِ الْأَبْيَاتِ قَالَ لَهُ كَيْفَ تَقُولُ بَدَأْنَ بِالْهَمْزِ وَبَدَيْنَ بِالْيَاءِ مَرِيدًا غُرَّتَهُ مِنْ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنَّ صَدْرَ الْبَيْتِ يُخْبِئْنَ الْوُجُوهَ بِالْهَمْزِ فَقِيَاسُهُ أَنْ يَقُولَ بَدَأْنَ مِثْلُ يُخْبِئْنَ بِالْهَمْزِ فِيهِمَا وَثَانِيهِمَا أَنَّ الْوَاوَ تَكُونُ ضَمِيرَ الْفَاعِلِ عَلَى الْمُذَكِّرِ لَا ضَمِيرَ النِّسْوَةِ فَمَا حَمَلَهُ ذَلِكَ عَلَى الْخَطَأِ بَلْ نَطَقَ بِالصَّوَابِ فَقَالَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ لَا أَقُولُ بَدَيْنَ وَلَا بَدَأْنَ بَلْ بَدَوْنَ فَقَالَ لَهُ أَصَبْت وَيُرْوَى أَنَّ بَعْضَ الْأُدَبَاءِ الْمَشْهُورِينَ طُرِحْت عَلَيْهِ هَذِهِ الْأَبْيَاتُ فَأَخْطَأَ فِيهَا وَقَالَ بَدَأْنَ لِلنُّظَّارِ فَأَخْطَأَ وَفِي الْأَبْيَاتِ سُؤَالٌ آخَرُ عَنْ مُشْكِلٍ مِنْ جِهَةِ الْمَعْنَى وَهُوَ أَنَّ هَذَا الْقَائِلَ كَيْفَ يَقْصِدُ إخْمَالَ الشَّمَاتَةِ وَكَلَامُهُ يَقْتَضِي تَقْوِيَتَهَا فَإِنَّ قَوْلَهُ:

مَنْ كَانَ مَسْرُورًا بِوَقْعَةِ مَالِكٍ أَوْ بِمَصْرَعِ مَالِكٍ ... فَلْيَأْتِ نِسْوَتَنَا بِوَجْهِ نَهَارٍ

وَذَكَرَ مِنْ حَالِ النِّسْوَةِ مَا يَقْتَضِي زِيَادَةَ الشَّمَاتَةِ وَتَحْقِيقَ الْمُصِيبَةِ وَهَتْكَ الْعِيَالِ وَتَهَتُّكَ الْوُجُوهِ وَهَذَا يَزِيدُ الشَّامِتَ شَمَاتَةً وَجَوَابُهُ أَنَّ عَادَةَ الْعَرَبِ أَنَّهَا لَا تُقِيمُ مَأْتَمًا وَلَا تَفْعَلُ النِّسْوَةُ هَذَا الْفِعْلَ إلَّا بَعْدَ أَخْذِ ثَأْرِ مَنْ يُفْعَلُ ذَلِكَ فِي حَقِّهِ وَمَنْ لَا يُؤْخَذُ بِثَأْرِهِ لَا يَسْتَحِقُّ عِنْدَهُمْ أَنْ يُقَامَ لَهُ مَأْتَمٌ وَلَا يُبْكَى عَلَيْهِ فَلِذَلِكَ قَالَ أَيُّهَا الشَّامِتُ اُنْظُرْ كَيْفَ حَالُ النِّسْوَةِ فَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّا أَخَذْنَا بِثَأْرِهِ وَذَهَبَتْ شَمَاتَةُ الشَّامِتِ بِهِ عِنْدَهُمْ أَوْ خَفَّتْ فَهَذَا وَجْهُ هَذِهِ الْأَبْيَاتِ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ.

[الْفَرْقُ بَيْنَ قَاعِدَةِ الْأَثْمَانِ فِي الْبِيَاعَاتِ تَتَقَرَّرُ بِالْعُقُودِ وَبَيْنَ قَاعِدَةِ الصَّدَقَاتِ فِي الْأَنْكِحَةِ لَا يَتَقَرَّرُ شَيْءٌ مِنْهُمَا بِالْعُقُودِ]

(الْفَرْقُ الْخَامِسُ وَالْخَمْسُونَ وَالْمِائَةُ بَيْنَ قَاعِدَةِ الْأَثْمَانِ فِي الْبِيَاعَاتِ تَتَقَرَّرُ بِالْعُقُودِ بِلَا خِلَافٍ وَبَيْنَ قَاعِدَةِ الصَّدَقَاتِ فِي الْأَنْكِحَةِ لَا يَتَقَرَّرُ شَيْءٌ مِنْهَا بِالْعُقُودِ مُطْلَقًا عَلَى الْمَشْهُورِ مِنْ مَذْهَبِ مَالِكٍ)

وَمُقَابِلُ الْمَشْهُورِ قَوْلَانِ أَحَدُهُمَا التَّقَرُّرُ مُطْلَقًا وَالطَّلَاقُ مُشَطَّرٌ وَثَانِيهِمَا النِّصْفُ يَتَقَرَّرُ بِالْعَقْدِ وَالنِّصْفُ الْآخَرُ غَيْرُ مُتَقَرِّرٍ حَتَّى يَسْقُطَ بِالطَّلَاقِ أَوْ يَثْبُتَ بِالدُّخُولِ أَوْ الْمَوْتِ (فَالنَّظَرُ هُنَا) فِي ثَلَاثَةِ أُمُورٍ الْأَمْرُ الْأَوَّلُ سِرُّ الْفَرْقِ بَيْنَ الْبَابَيْنِ عَلَى الْمَشْهُورِ فِي الصَّدَاقِ وَالْأَمْرُ الثَّانِي سَبَبُ الْخِلَافِ وَالْأَمْرُ الثَّالِثُ ثَمَرَةُ الْخِلَافِ (أَمَّا الْأَمْرُ الْأَوَّلُ) فَهُوَ أَنَّ الْمَشْهُورَ لَاحِظْ أَنَّ الصَّدَاقَ شَرْطٌ فِي الْإِبَاحَةِ لَا عِوَضٌ عَنْ الْوَطْأَةِ الْأُولَى لِوَجْهَيْنِ

(الْأَوَّلُ) أَنَّ النَّاسَ لَا يَقْصِدُونَ بِهِ الْمُعَاوَضَةَ بَلْ التَّحَمُّلَ بِشَهَادَةِ الْعَادَةِ أَنَّ الْعُقَلَاءَ لَا يَقْصِدُونَ الْوَطْأَةَ الْأُولَى بِالصَّدَاقِ

(الْوَجْهُ الثَّانِي) أَنَّ صَاحِبَ الشَّرْعِ أَيْضًا لَمْ يُرِدْ الْمُعَاوَضَةَ بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَمْ يَشْتَرِطْ فِيهِ شُرُوطَ الْأَعْوَاضِ مِنْ نَفْيِ الْجَهَالَةِ لِلْمَرْأَةِ بَلْ يَجُوزُ الْعَقْدُ عَلَى الْمَجْهُولَةِ مُطْلَقًا وَلَا نَعْرِضُ لِتَحْدِيدِ مُدَّةِ الِانْتِفَاعِ أَيْضًا وَذَلِكَ وَشَبَهُهُ دَلِيلٌ عَلَى عَدَمِ قَصْدِ صَاحِبِ الشَّرْعِ إلَى الْمُعَاوَضَةِ وَأَنَّهُ إنَّمَا جَعَلَهُ شَرْطًا لِأَصْلِ الْإِبَاحَةِ وَقَاعِدَةُ الشَّرْطِ أَنْ يَتَعَيَّنَ

<<  <  ج: ص:  >  >>