للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:

ما في نفسه، فإن أسرع إليه، أضافه إلى خواصه، وإن سكت، أعرض عنه، وكان كهولهم ينهون شبانهم ويحذرونهم، وطالت المدة، ثم كثر أتباعه من جبال درن، وهو جبل الثلج، وطريقه وعر ضيق.

قال اليسع في "تاريخه": لا أعلم مكانا أحصن من تينملل لأنها بين جبلين، ولا يصل إليهما إلا الفارس، وربما نزل عن فرسه في أماكن صعبة، وفي مواضع يعبر على خشبة، فإذا أزيلت الخشبة، انقطع الدرب، وهي مسافة يوم، فشرع أتباعه يغيرون ويقتلون، وكثروا وقووا، ثم غدر بأهل تينملل الذين آووه، وأمر خواصه، فوضعوا فيهم السيف، فقال له الفقيه الإفريقي أحد العشرة من خواصه: ما هذا؟! قوم أكرمونا وأنزلونا نقتلهم!! فقال لأصحابه: هذا شك في عصمتي، فاقتلوه، فقتل.

قال اليسع وكل ما أذكره من حال المصامدة، فقد شاهدته، أو أخذته متواترًا، وكان في وصيته إلى قومه إذا ظفروا بمرابط أو تلمساني أن يحرقوه.

فلما كان عام تسعة عشر وخمس مائة، خرج يومًا، فقال: تعلمون أن البشير -يريد الونشريسي- رجل أمي، ولا يثبت على دابة، فقد جعله الله مبشرًا لكم، مطلعًا على أسراركم، وهو آية لكم، قد حفظ القرآن، وتعلم الركوب، وقال: اقرأ، فقرأ لختمة في أربعة أيام، وركب حصانًا، وساقه، فبهتوا، وعدوها آية لغباوتهم، فقام خطيبًا، وتلا: ﴿لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ﴾ [الأنفال: ٣٧]، وتلا: ﴿مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ﴾ [آل عمران: ١١٠]، فهذا البشير مطلع على الأنفس، ملهم ونبيكم يقول: "إن في هذه الأمة محدثين، وإن عمر منهم" (١). وقد صحبنا أقوام أطلعه الله على سرهم، ولابد من النظر في أمرهم، وتيمم العدل فيهم، ثم نودي في جبال المصامدة: من كان مطيعًا للإمام، فليأت، فأقبلوا يهرعون، فكانوا يعرضون على البشير، فيخرج قومًا على يمينه، ويعدهم من أهل الجنة، وقومًا على يساره، فيقول: هؤلاء شاكون في الأمر، وكان يؤتى بالرجل منهم فيقول: هذا تائب ردوه على اليمين تاب البارحة، فيعترف بما قال: واتفقت له فيهم عجائب، حتى كان يطلق أهل اليسار، وهم يعلمون أن مآلهم إلى القتل، فلا يفر منهم أحد، وإذا تجمع منهم عدة، قتلهم قراباتهم حتى يقتل الأخ أخاه.


(١) صحيح: أخرجه البخاري "٣٦٨٩" من حديث أبي هريرة مرفوعًا بلفظ: "لقد كان فيما قبلكم من الأمم ناس محدثون، فإن يك في أمتي فإنه عمر" زاد زكرياء ب أبي زائدة، عن سعد، عن أبي هريرة قال: قال النبي : "لقد كان فيمن كان قبلكم من بني إسرائيل رجال يكلمون من غير أن يكونوا أنبياء، فإن يكن في أمتي منهم أحد فعمر". أخرجه مسلم "٢٣٩٨"، والترمذي "٣٦٩٤"، من حديث عائشة، به.

<<  <  ج: ص:  >  >>