للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

حديث أبي هريرة عن النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال: «سدّدوا وقاربوا، واعلموا أنّه لن ينجو أحد منكم بعمله.

قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: ولا أنا إلّا أن يتغمّدني الله برحمة منه وفضل» فجمع في هذا الحديث مقامات الدّين كلّها. فأمر بالاستقامة وهي السّداد، والإصابة في النّيّات والأقوال. وأخبر في حديث ثوبان أنّهم لا يطيقونها فنقلهم إلى المقاربة، وهي أن يقربوا من الاستقامة بحسب طاقتهم، كالّذي يرمي إلى الغرض، وإن لم يصبه يقاربه. ومع هذا فقد أخبرهم أنّ الاستقامة والمقاربة لا تنجي يوم القيامة، فلا يركن أحد إلى عمله، ولا يرى أنّ نجاته به؛ بل إنّما نجاته برحمة الله وغفرانه وفضله. فالاستقامة كلمة جامعة آخذة بمجامع الدّين، وهي القيام بين يدي الله تعالى على حقيقة الصّدق، والوفاء بالعهد.

والاستقامة تتعلّق بالأقوال والأفعال والأحوال والنّيّات. فالاستقامة فيها، وقوعها لله وبالله وعلى أمر الله.

قال بعضهم: كن صاحب الاستقامة، لا طالب الكرامة؛ فإنّ نفسك متحرّكة في طلب الكرامة، وربّك يطالبك بالاستقامة. فالاستقامة للحال بمنزلة الرّوح من البدن، فكما أنّ البدن إن خلا عن الرّوح فهو ميّت فكذلك الحال إذا خلا عن الاستقامة فهو فاسد. وكما أنّ حياة الأحوال بها، فزيادة أعمال الزّاهدين أيضا ونورها وزكاؤها بها، فلا زكاء للعمل ولا صحّة بدونها «١» .

وقال رحمه الله تعالى: «من هدي في هذه الدّار إلى صراط الله المستقيم الّذي أرسل به رسله وأنزل به كتبه، هدي هناك إلى الصّراط المستقيم الموصل إلى جنّته دار ثوابه، وعلى قدر ثبوت قدم العبد على هذا الصّراط الّذي نصبه الله لعباده في هذه الدّار، يكون ثبوت قدمه على الصّراط المنصوب على متن جهنّم، وعلى قدر سيره على هذا الصّراط يكون سيره على ذاك الصّراط، ولينظر العبد الشّبهات والشّهوات الّتي تعوقه عن سيره على هذا الصّراط المستقيم؛ فإنّها الكلاليب التي بجنبتي ذاك الصّراط تخطفه وتعوقه عن المرور عليه فإن كثرت هنا، وقويت فكذلك هي هناك وَما رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (فصلت/ ٤٦) » «٢» .

[إذا استقام القلب استقامت الجوارح:]

قال ابن رجب- رحمه الله تعالى-: «أصل الاستقامة استقامة القلب على التّوحيد، وقد فسّر أبو بكر- رضي الله عنه- الاستقامة في قوله تعالى:

إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا*: بأنّهم لم يلتفتوا إلى غيره، فمتى استقام القلب على معرفة الله، وعلى خشيته وإجلاله ومهابته ومحبّته وإرادته ورجائه ودعائه والتّوكّل عليه والإعراض عمّا سواه، استقامت الجوارح كلّها على طاعته، فإنّ القلب هو ملك الأعضاء، وهي جنوده، فإذا استقام الملك استقامت جنوده ورعاياه. وأعظم ما يراعى استقامته بعد القلب


(١) مدارج السالكين (٢/ ١٠٣- ١٠٩) ، وانظر بصائر ذوي التمييز (٤/ ٣١١- ٣١٣) .
(٢) بتصرف من التفسير القيم (١٠٩) .