للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

للدّعوة إلى الله، واحتمل عداوة البعيد والقريب في الله تعالى، وآثر رضا الله على رضا الخلق من كلّ وجه، ولم يأخذه في إيثار رضاه لومة لائم بل كان همّه وعزمه وسعيه كلّه مقصورا على إيثار مرضاة الله وتبليغ رسالاته، وإعلاء كلماته، وجهاد أعدائه؛ حتّى ظهر دين الله على كلّ دين وقامت حجّته على العالمين وتمّت نعمته على المؤمنين، فبلّغ الرّسالة، وأدّى الأمانة ونصح الأمّة، وجاهد في الله حقّ جهاده وعبد الله حتّى أتاه اليقين من ربّه فلم ينل أحد من درجة هذا الإيثار ما نال- صلوات الله وسلامه عليه.

هذا وقد جرت سنّة الله- الّتي لا تبديل لها- أنّ من آثر مرضاة الخلق على مرضاته: أن يسخط عليه من آثر رضاه، ويخذله من جهته، ويجعل محنته على يديه، فيعود حامده ذامّا، ومن آثر مرضاته ساخطا «١» ، فلا على مقصوده منهم حصل، ولا إلى ثواب مرضاة ربّه وصل. وهذا أعجز الخلق وأحمقهم.

قال الشّافعيّ- رحمه الله-: رضا النّاس غاية لا تدرك فعليك بما فيه صلاح نفسك فالزمه.

ومعلوم أن لا صلاح للنّفس إلّا بإيثار رضا ربّها ومولاها على غيره، ولقد أحسن من قال:

فليتك تحلو والحياة مريرة ... وليتك ترضى والأنام غضاب

وليت الّذي بيني وبينك عامر ... وبيني وبين العالمين خراب

إذا صحّ منك الودّ فالكلّ هيّن ... وكلّ الّذي فوق التّراب تراب

الثّالثة: أن تنسب إيثارك إلى الله دون نفسك، وأنّه هو الّذي تفرّد بالإيثار لا أنت، فكأنّك سلّمت الإيثار إليه، فإذا آثرت غيرك بشيء؛ فإنّ الّذي آثره هو الحقّ لا أنت فهو المؤثر على الحقيقة، إذ هو المعطي حقيقة «٢» .

[الأسباب التي تعين على الإيثار:]

(١) تعظيم الحقوق: فإن عظمت الحقوق عنده، قام بواجبها ورعاها حقّ رعايتها واستعظم إضاعتها، وعلم أنّه إن لم يبلغ درجة الإيثار لم يؤدّها كما ينبغي فيجعل إيثاره احتياطا لأدائها.

(٢) مقت الشّحّ: فإنّه إذا مقته وأبغضه التزم الإيثار؛ فإنّه يرى أنّه لا خلاص له من هذا المقت البغيض إلّا بالإيثار.

(٣) الرّغبة في مكارم الأخلاق: وبحسب رغبته فيها يكون إيثاره؛ لأنّ الإيثار أفضل درجات مكارم الأخلاق «٣» .

[الفرق بين الإيثار والسخاء والجود:]

السّخاء أعلى مراتب العطاء والبذل، وهذه المراتب هي:


(١) ومن آثر: معطوف على «حامده» والمعنى يعود الذي آثره من الخلق ساخطا عليه.
(٢) أي الحقوق.
(٣) مدارج السالكين لابن القيم (٣/ ٣٠٣) - ٣٠٤) بتصرف.