للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

١٧-* (قال الغزاليّ- رحمه الله-: «كثر الحثّ في كتاب الله تعالى على التّدبّر والاعتبار والنّظر والافتكار، ولا يخفى أنّ الفكر هو مفتاح الأنوار ومبدأ الاستبصار، وهو شبكة العلوم ومصيدة المعارف والفهوم، وأكثر النّاس قد عرفوا فضله، ورتبته لكن جهلوا حقيقته وثمرته ومصدره) * «١» .

١٨-* (وقال رحمه الله: «اعلم أنّ كلّ ما في الوجود ممّا سوى الله تعالى فهو فعل الله وخلقه، وكلّ ذرّة من الذّرّات، فيها عجائب وغرائب تظهر بها حكمة الله وقدرته وجلاله وعظمته، وإحصاء ذلك غير ممكن؛ لأنّه لو كان البحر مدادا لذلك لنفد البحر قبل أن ينفد عشر عشيره، ولكنّا نشير إلى جمل منه ليكون ذلك كالمثال لما عداه.

فنقول: الموجودات المخلوقة منقسمة إلى (ما لا يعرف أصلها) فلا يمكننا التّفكّر فيها وكم من الموجودات الّتي لا نعلمها كما قال الله تعالى:

وَيَخْلُقُ ما لا تَعْلَمُونَ (النحل/ ٨) سُبْحانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْواجَ كُلَّها مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ وَمِمَّا لا يَعْلَمُونَ (يس/ ٣٦) وقال:

وَنُنْشِئَكُمْ فِي ما لا تَعْلَمُونَ

(الواقعة/ ٦١) وإلى ما يعرف أصلها وجملتها، ولا يعرف تفصيلها) فيمكننا أن نتفكّر في تفصيلها، وهي منقسمة إلى ما أدركناه بحسّ البصر، وإلى ما لا ندركه بالبصر أمّا الّذي لا ندركه بالبصر، فكالملائكة والجنّ والشّياطين والعرش والكرسيّ وغير ذلك، ومجال الفكر في هذه الأشياء ممّا يضيق ويغمض. فلنعدل إلى الأقرب إلى الأفهام وهي المدركات بحسّ البصر: وذلك هو السّماوات السّبع والأرض وما بينهما، فالسّماوات مشاهدة بكواكبها وشمسها وقمرها وحركتها ودورانها وطلوعها وغروبها، والأرض مشاهدة بما فيها من جبالها ومعادنها وأنهارها وبحارها وحيوانها ونباتها، وما بين السّماء والأرض وهو الجوّ مدرك بغيومها وأمطارها وثلوجها ورعدها وبرقها وصواعقها وشهبها وعواصف رياحها.

فهذه هي الأجناس المشاهدة من السّماوات والأرض وما بينهما، وكلّ جنس منها ينقسم إلى أنواع، وكلّ نوع ينقسم إلى أقسام، ويتشعّب كلّ قسم إلى أصناف. ولا نهاية لانشعاب ذلك وانقسامه في اختلاف صفاته وهياته ومعانيه الظّاهرة والباطنة. وجميع ذلك مجال التّأمّل فلا تتحرّك ذرّة في السّموات والأرض من جماد ولا نبات ولا حيوان ولا فلك ولا كوكب إلّا والله تعالى هو محرّكها وفي حركتها حكمة أو حكمتان أو عشر أو ألف حكمة، كلّ ذلك شاهد لله تعالى بالوحدانيّة ودالّ على جلاله وكبريائه، وهي الايات الدّالّة عليه.

وقد ورد في القرآن الحثّ على التّفكّر في هذه الايات كما قال الله تعالى: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ لَآياتٍ لِأُولِي


(١) الإحياء للغزالي (٤/ ٤٢٣) .