للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

بلغه وإن كان المستمع أفقه من المبلّغ لما أعطي المبلّغون من النّضرة، ولهذا قال سفيان بن عيينة: لا تجد أحدا من أهل الحديث إلّا وفي وجهه نضرة لدعوة النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم ولم يزل أهل العلم في القديم والحديث يعظّمون نقلته حتّى قال الشّافعيّ- رحمه الله- إذا رأيت رجلا من أهل الحديث فكأنّي رأيت رجلا من أصحاب النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم، وإنّما قال الشّافعيّ ذلك لأنّهم في مقام الصّحابة- رضوان الله عليهم- من تبليغ حديث النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم، وقال الشّافعيّ أيضا: أهل الحديث حفظوا فلهم علينا الفضل لأنّهم حفظوا «١» لنا» «٢» .

[أنواع التبليغ:]

قال ابن حجر: التّبليغ على نوعين، أحدهما وهو الأصل- أن يبلّغه بعينه، وهو خاصّ بما يتعبّد بتلاوته وهو القرآن، وثانيهما: أن يبلّغ ما يستنبط من أصول ما تقدّم إنزاله فينزل عليه موافقته فيما استنبطه، إمّا بنصّه وإمّا بما يدلّ على موافقته بطريق الأولى «٣» .

وقال القرطبيّ- رحمه الله- في قول الله تعالى:

إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلْنا مِنَ الْبَيِّناتِ وَالْهُدى..

يعمّ المنصوص عليه والمستنبط لشمول اسم الهدى للجميع «٤» .

[حكم تبليغ العلم:]

قال القرطبيّ- رحمه الله تعالى- استدلّ العلماء على وجوب تبليغ العلم الحقّ بقوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلْنا مِنَ الْبَيِّناتِ وَالْهُدى مِنْ بَعْدِ ما بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتابِ أُولئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ (البقرة/ ١٥٩) ، وتحقيق الاية هو أنّ العالم إذا قصد كتمان العلم عصى، وإذا لم يقصده لم يلزمه التّبليغ إذا عرف أنّه مع غيره، وأمّا من سئل فقد وجب عليه التّبليغ لهذه الاية، ولقوله صلّى الله عليه وسلّم: «من سئل عن علم يعلمه فكتمه ألجمه الله يوم القيامة بلجام من نار» «٥» . أمّا ما يتعلّق ب «غير البيّنات والهدى» فإنّه يجوز كتمه وعدم تبليغه، لا سيّما إن كان مع ذلك خوف، وقد ترك أبو هريرة ذلك حين قال: «حفظت عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وعاءين، فأمّا أحدهما فبثثته، وأمّا الاخر فلو بثثته قطع هذا البلعوم «٦» ، قال البخاريّ:

وهذا الّذي لم يبثّه أبو هريرة وخاف على نفسه فيه الفتنة أو القتل إنّما هو ممّا يتعلّق بأمر الفتن والنّصّ على أعيان المرتدّين والمنافقين، ونحو هذا ممّا لا يتعلّق بالبيّنات والهدى» «٧» .


(١) حفظ الأولى من الحفظ نقيض النسيان، وهو التعاهد وقلة الغفلة والثانية من الحفظ الذي هو نقيض الضّياع.
(٢) مجموع الفتاوى (١/ ١١) .
(٣) الفتح (١٣/ ٥١٦) كتاب التوحيد. كذا نصه، والمراد: أن التبليغ إما أن يكون تبليغ نصّ بعينه كالقرآن. وإما أن يكون استنباطا ثم تنزل من الله آية تدل على موافقة الرسول صلّى الله عليه وسلّم.
(٤) تفسير القرطبي (١/ ١٨٥) .
(٥) تفسير القرطبي (١/ ١٨٥) ، والحديث في سنن ابن ماجة، المقدمة (٩٨) ، رقم الحديث (٢٦٦) .
(٦) انظر الحديث في الفتح (١/ ٢٦١) .
(٧) تفسير القرطبي (١/ ١٨٦) .