للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

وتعطي تعليمات الإسلام الجانب المادي حقه، ولم تنكر مطلبا من مطالبه، بل وجهت إلى ضبطها وضبط إشباعها. ومن التوجيهات النبوية الخالدة، إنكاره صلّى الله عليه وسلّم على من سولت له نفسه حرمان جسده من حقه وحاجاته الأساسية، يروي البخاري- رحمه الله-: «جاء ثلاثة رهط إلى بيوت أزواج النبي صلّى الله عليه وسلّم يسألون عن عبادة النبي صلّى الله عليه وسلّم، فلما أخبروا كأنهم تقالّوها، فقالوا: وأين نحن من النبي صلّى الله عليه وسلّم؟ قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، قال أحدهم: أما أنا فإني أصلي الليل أبدا، وقال الآخر: أنا أصوم الدهر ولا أفطر، وقال آخر: أنا أعتزل النساء فلا أتزوج أبدا، فجاء رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال: أنتم الذين قلتم كذا وكذا وكذا، أما والله إني لأخشاكم لله وأتقاكم له، لكني أصوم وأفطر، وأصلي وأرقد، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس منى» «١» .

إن الإسلام في توجيهاته لم يطغ الجانب المعنوي على الحاجات الحياتية ولكنه يعطي الجانب المعنوي مكانه وأثره حتى يؤدي غرضه، ومن هذه القوى المعنوية التي أولاها الإسلام عنايته العقل باعتباره القوة المدركة التي يستطيع الإنسان عن طريقها أن يعقل الأمور ويميز الخير من الشر، والنافع من الضار.

٤- ومن منطلق رسالة الإنسان فإن لديه الإمكانية والاستعداد لفعل الخير والشر، ويكتسب جانب الخير وجانب الشر بالتطبيع لا بالطبع، وهذا ما أوضحته الآية الكريمة: وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ «٢» . وقوله تعالى فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْواها «٣» . وهو قادر على فعل الخير وفعل الشر والأمر راجع إلى تربية الاختيار، وقد يختار الإنسان أن يسلك سلوكا مضادا للقوانين الأخلاقية، ولكنه لا يستطيع أن يفلت من الإطار الخلقي بعيدا عن الخير والشر «٤» .

وتعود تلك القدرة على الاختيار إلى التربية: تربية الاختيار، وهذا ما أشار إليه الحديث الشريف: «كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه، أو ينصرانه، أو يمجسانه» «٥» . والحديث يتضمن تصوير حالة الاستعدادات والقدرات القابلة للتشكيل والصياغة، ويبين أنه من خلال التربية والبيئة والتفاعل والتنشئة الاجتماعية يكون سلوك الإنسان، وتكون إرادته وقدرته على مواجهة الشر والتغلب عليه واختيار الخير، وعلى شكل هذه الإرادة وقوتها تكون حياة الإنسان.


(١) صحيح البخاري: بعناية مصطفى البغا، ج ٧، ص ٢٠.
(٢) البلد: ١٠.
(٣) الشمس: ٨.
(٤) على عزت بيجوفتش، مرجع سابق، ص ٨٤.
(٥) ابن الديبع الشيباني، تيسير الوصول إلى أحاديث الرسول، ج ١، ص ٢٣.