للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

إلى ترك العمل أو ما يكون مظنّة للاتّكال أو التّواكل ليس من التّوكّل في شيء، وقد جاء في حديث أبي هريرة- رضي الله عنه- ما يؤكّد هذه الحقيقة، ففي الحوار الّذي رواه أبو هريرة عن المصطفى صلّى الله عليه وسلّم وعمر بن الخطّاب- رضي الله عنه- هذا الحوار- كما جاء في رواية مسلم: قال عمر: يا رسول الله، بأبي أنت وأمّي، أبعثت أبا هريرة بنعليك، من لقي يشهد ألّا إله إلّا الله مستيقنا بها قلبه، بشّره بالجنّة؟ قال: «نعم» ، قال (عمر) : فلا تفعل، فإنّي أخشى أن يتّكل النّاس عليها، فخلّهم يعملون» . قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «فخلّهم يعملون» «١» . ويفهم من الحديث والّذي قبله أنّ الاتّكال يعني ترك العمل وعدم الأخذ بالأسباب وأنّ ذلك ليس من التّوكّل في شيء.

[بين التوكل والتفويض:]

بين التّوكّل على الله وتفويض الأمر إليه علاقة العموم والخصوص إذ التّفويض أوسع من معنى التّوكّل، والتّوكّل أخصّ من التّفويض، قال صاحب المنازل: والتّفويض ألطف إشارة، وأوسع معنى من التّوكّل، والتّوكّل يكون بعد وقوع السّبب، أمّا التّفويض فإنّه يكون قبل وقوع السّبب وبعده، والتّفويض هو عين الاستسلام، أمّا التّوكّل فهو شعبة منه «٢» .

وقال ابن القيّم: يعني بذلك من يفوّض أمره إلى الله يتبرّأ من الحول والقوّة، ويفوّض الأمر لصاحب الأمر من غير أن يقيم المفوّض إليه مقام نفسه في مصالحه، بخلاف التّوكّل، فإنّ الوكالة تقتضي أن يقوم الوكيل مقام الموكّل.

وقال- رحمه الله تعالى-: لو قال قائل: التّوكّل فوق التّفويض، وأجلّ منه وأرفع لكان مصيبا، ولهذا كان القرآن الكريم مملوءا به (أي بالتّوكّل) أمرا وإخبارا عن خاصّة الله وأوليائه، وصفوة المؤمنين، وأمر الله به رسوله في مواضع عديدة من كتابه «٣» ، وسمّاه المتوكّل «٤» .

أمّا التّفويض فلم يجىء في القرآن الكريم إلّا فيما حكاه المولى عزّ وجلّ عن مؤمن آل فرعون، وذلك قوله عزّ وجلّ: وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ (غافر/ ٤٤) ، ثمّ خلص إلى القول: إنّ اتّخاذ المولى عزّ وجلّ وكيلا هو محض العبوديّة، وخالص التّوحيد، إذا قام به صاحبه حقيقة، وهو بذلك أوسع من التّفويض، وأعلى وأرفع «٥» .

بين التوكل والثقة بالله- عزّ وجلّ-:

نقل ابن القيّم عن صاحب المنازل قوله: الثّقة:

سواد عين التّوكّل، ونقطة دائرة التّفويض. وذكر من


(١) انظر الحديث بتمامه في صحيح مسلم ج ١ ص ٦٠، ٦١ ولم نذكره ضمن أحاديث الصفة لأنه في الاتكال (التواكل) ، وشتان ما هما.
(٢) مدارج السالكين ٢/، ١٤٣.
(٣) انظر الآيات الواردة في التوكل أرقام ١، ٢، ٤، ٦، ٧، ٨، ٩، ١٠، ١٤، وقد ذكر ابن القيم أن الأمر بالتوكل للرسول صلّى الله عليه وسلّم قد جاء في أربعة مواضع، ولكنها في الحقيقة تسعة مواضع، وربما كانت هذه الأربعة هي التي حضرت الشيخ ولم يرد الاستقصاء.
(٤) انظر الحديث رقم (٣) .
(٥) مدارج السالكين ٢/ ١٤٥.