للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

مسار الصفحة الحالية:

صاحب الحياء قد يستحيي أن يواجه بالحقّ، فيترك الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر، وقد يحمله الحياء على الإخلال ببعض الحقوق وغير ذلك ممّا هو معروف في العادة، فأقول إنّ ذلك ليس بحياء حقيقة، بل هو عجز وخور ومهانة وإنّما أطلقوا عليه حياء تشبيها ومجازا «١» ، وإنّما يكون الحياء حقيقيّا حيث يكون قبح المستحيا منه حقيقيّا، فلا يدخل فيه الانقباض عمّا يستقبحه النّاس وهو في الحقيقة حسن، ولا الانقباض عمّا هو في الأصل قبيح ولكنّ الانقباض عنه يؤدّي إلى ما هو أقبح منه، مثال ذلك ما يقع من بعض خرعات النّساء، يعرض لها فاجر في خلوة يحاول استكراهها، فتنقبض نفسها عن أن تستغيث وتصرخ، لأنّها تستقبح أن يشيع عنها أنّ فاجرا تعرّض لها، ولو عقلت لعلمت أنّ شيوع ذلك ليس بقبيح إذا اقترن بإبائها عن الفاحشة، والنّاس يثنون عليها بالعفّة والحزم والثّبات إذا سمعوا أنّها انتهرته وصرخت بأهلها فجاءوا ودفعوه، وعلى ذلك فالحياء في قوله صلّى الله عليه وسلّم «الحياء لا يأتي إلّا بخير» هو الحياء الحقيقيّ.

وقد ثبت أنّه صلّى الله عليه وسلّم كان أشدّ حياء من العذراء في خدرها وهو لنا في ذلك قدوة- لا يقوم دون غضبه شيء إذا انتهكت حرمات الله «٢» .

ممّ يتولّد الحياء؟

قال الجنيد- رحمه الله تعالى- الحياء رؤية الآلاء (أي النّعم) ، ورؤية التّقصير، ويتولّد بينهما الحياء «٣» .

وقال أبو الفدا (إسماعيل الهرويّ) : يتولّد الحياء من التّعظيم المنوط بالحبّ «٤» .

قال ابن القيّم: يعني أنّ الحياء حالة حاصلة من امتزاج التّعظيم بالمودّة، فإذا اقترنا تولّد بينهما الحياء «٥» .

وقال غيرهما: تولّده من شعور القلب بما يستحيى منه (ونفرته عنه) ، فيتولّد من هذا الشّعور والنّفرة حالة هي الحياء «٦» .

قال ابن القيّم: ولا تنافي بين هذه الأقوال، لأنّ للحياء عدّة أسباب، وكلّ أشار إلى بعضها «٧» .

وقد يتولّد الحياء من علم العبد بنظر الحقّ إليه، فيجذبه ذلك إلى تحمّل المجاهدة ويحمله على استقباح الجناية، ويسكته عن الشّكوى «٨» .

وقد أشار ابن القيّم إلى هذه الدّرجة في مطلع حديثه عن الحياء عند ما ذكر الآيات الكريمة الّتي تدلّ على رؤية المولى عزّ وجلّ لعباده ظواهرهم وبواطنهم وعلى كونه رقيبا عليهم، وذلك قوله سبحانه: أَلَمْ


(١) فضل الله الصمد (٢/ ٥٤) .
(٢) فضل الله الصمد (٢/ ٦٩١، ٦٩٢) .
(٣) رياض الصالحين (٢٤٦) .
(٤) مدارج السالكين (٢/ ٢٧٤) نقلا عن منازل السالكين لأبي الفداء.
(٥) المرجع السابق نفسه، والصفحة نفسها.
(٦) المرجع السابق (٢/ ٢٧٥) .
(٧) المرجع السابق نفسه، والصفحة نفسها.
(٨) نقلا عن مدارج السالكين (٢/ ٢٧٥) .