للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكسوة توضع فوق بعضها البعض، فلما احترقت وهنت جدران الكعبة من كل جانب وتصدعت، ومما زاد الطين بلة أنه أعقب ذلك الحريق سيل جارف غمر الكعبة حتى دخل في جوفها، فجزعت قريش لذلك جزعا شديدا، وخافوا أن تنهدم، وخشوا إن قاموا بهدمها وبنائها أن ينزل عليهم العذاب، وأخذوا ينظرون ويتشاورون في أمر البيت العتيق «١» .

[خطة البناء والتنفيذ:]

واستقر رأيهم أخيرا على إعادة بناء الكعبة، وسمعوا أن سفينة رومية تحطمت قرب الشعيبة، ميناء مكة القديم، فركب الوليد بن المغيرة ومعه نفر من زعماء قريش واشتروا خشبها لاستخدامه في سقف الكعبة، واستعانوا بنجار رومي يسمى باقوم «وتعاونوا وترافدوا في النفقة، واختلفوا في بنيان مقدّم البيت، فقال أبو أمية بن المغيرة:

يا معشر قريش لا تنافسوا ولا تباغضوا فيطمع فيكم غيركم، ولكن جزّئوا البيت أربعة أجزاء، ثم ربّعوا القبائل فلتكن أرباعا، ثم اقترعوا عند هبل في بطن الكعبة على جوانبها، فطار قدح بني عبد مناف وبني زهرة على الوجه الذي فيه الباب وهو الشرقي، وقدح بني عبد الدار، وبني أسد بن عبد العزى، وبني عديّ على الشق الذي يلي الحجر وهو الشق الشامي. وطار قدح بني سهم، وبني جمح، وبني عامر بن لؤي على ظهر الكعبة وهو الشق الغربي. وطار قدح بني تيم وبني مخزوم وقبائل من قريش ضمّوا معهم على الشق اليماني الذي يلي الصفا وأجياد.

وأمروا بالحجارة أن تجمع بين أجياد والضواحي، فكانت قريش تنقل بأنفسها الحجارة تبرّرا وتبركا بالكعبة» «٢» وقد شارك محمد صلّى الله عليه وسلّم قومه في نقل الحجارة، وكان عمره حينذاك خمسا وثلاثين سنة «٣» .

ولما أجمعت قريش على هدم الكعبة، أخرجوا ما كان بها من مال وحلية، وجعلوه عند أبي طلحة عبد الله بن عبد العزى بن عبد الدار بن قصي، وأخرجوا كبير الأصنام هبل، ونصبوه عند المقام. ولما أرادوا الشروع في الهدم ظهرت لهم حية كانت داخل الكعبة وكشّت «٤» وفتحت فاها، فهابوها، فقال لهم الوليد بن المغيرة: «يا قوم ألستم تريدون بهدمها الإصلاح؟ قالوا: بلى. قال: فإن الله لا يهلك المصلحين، ولكن لا تدخلوا في عمارة بيت ربكم إلّا من طيّب أموالكم، ولا تدخلوا فيه مالا من ربا، ولا من مال ميسر، ولا مهر بغيّ، ولا مظلمة أحد من الناس، وجنبوه الخبيث من أموالكم، فإن الله لا يقبل إلّا طيبا» ، ففعلوا، ثم وقفوا عند المقام ودعوا الله أن يذهب عنهم تلك الحية، فأقبل طائر كبير فاختطفها وألقى بها في أجياد، فاعتبروا ذلك دليلا على رضا الله عن عملهم «٥» .

تقدم الوليد بن المغيرة بمعول في يده وبدأ في الهدم بمفرده دون أن يشاركه أحد من قريش خوفا من أن ينزل به العذاب إذا أمسى، ولما أصبح سليما اشتركوا معه في هدم البيت حتى بلغوا حجارة خضرا لا يطيق تحريك الحجر


(١) البخاري- الصحيح (فتح الباري ٣/ ٥١٦، ٧/ ١٨٠، ابن هشام: السيرة ١/ ١١٧، ابن فهد- إتحاف الورى ١/ ١٤٤- ١٤٥.
(٢) ابن فهد: إتحاف الورى ١/ ١٤٦- ١٤٧، انظر أيضا: الأزرقي- أخبار مكة ١/ ١٦٠- ١٦١، المسعودي- مروج الذهب ٢/ ٢٨٠.
(٣) ابن هشام: السيرة النبوية ١/ ١١٧، ابن كثير: البداية والنهاية ٢/ ٢٩٨، ابن الجوزي- المنتظم ٢/ ٣٢٨.
(٤) كشّت أي ضربت باحتكاك جلد بعضها ببعض.
(٥) الأزرقي- أخبار مكة ١/ ١٦١- ١٦٢، ابن فهد- إتحاف الورى ١/ ١٤٩- ١٥٠، باسلامة- تاريخ الكعبة المعظمة ص/ ٦١- ٦٢، والسيرة النبوية لابن هشام ١/ ٢٢.