للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

ويعلق أحد الباحثين على ذلك بقوله: «لقد تحول خط التاريخ كما لم يتحول من قبل قط، وكما لم يتحول من بعد أيضا. وكان هذا الحدث هو مفرق الطريق. وقامت المعالم في الأرض واضحة عالية لا يطمسها الزمان، ولا تطمسها الأحداث. وقام في الضمير الإنساني تصور للوجود وللحياة وللقيم لم يسبق أن اتضح بمثل هذه الصورة، ولم يجئ بعده تصور في مثل شموله ونصاعته وطلاقته من اعتبارات الأرض جميعا، مع واقعيته وملاءمته للحياة الإنسانية.

ولقد استقرت قواعد هذا المنهج الإلهي في الأرض وتبينت خطوطه ومعالمه لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ «١» . لا غموض ولا إبهام. إنما هو الضلال عن علم، والانحراف عن عمد، والالتواء عن قصد. إنه الحادث الفذ في تلك اللحظة الفريدة. الحادث الكوني الذي ابتدأ به عهد في هذه الأرض وانتهى عهد. والذي كان فرقانا في تاريخ البشر لا في تاريخ أمة ولا جيل. والذي سجلته جنبات الوجود كله وهي تتجاوب به، وسجله الضمير الإنساني. وبقي أن يتلفت هذا الضمير اليوم على تلك الذكرى العظيمة ولا ينساها وأن يذكر دائما أنه ميلاد جديد للإنسانية لم يشهده إلا مرة واحدة في الزمان» «٢» .

أيقن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه رسول الله بعد أن نقشت تلك الآيات من سورة «اقرأ» في صدره، وبعد حديث ورقة بن نوفل له، وازداد يقينه بعد نزول الآيات الأولى من سورة المدثر، فقد روى جابر بن عبد الله الأنصاري وهو يحدث النبي صلّى الله عليه وسلّم عن فترة الوحي- فقال في حديثه: «بينا أنا أمشي إذ سمعت صوتا من السّماء فرفعت بصري فإذا الملك الّذي جاءني بحراء جالس على كرسيّ بين السّماء والأرض، فرعبت منه فرجعت فقلت: زمّلوني. فأنزل الله تعالى: يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ* قُمْ فَأَنْذِرْ- إلى قوله- وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ «٣» فحمي الوحي وتتابع «٤» . وهذه الآيات الأولى من سورة المدثر فيها الأمر من الله سبحانه وتعالى لمحمد صلّى الله عليه وسلّم بإنذار البشر «٥» ودعوتهم إلى عبادة الله وحده لا شريك له، فهي تمثل في حياة محمد صلّى الله عليه وسلّم حدّا فاصلا بين عهدين، عهد ما قبل البعثة الذي يمثل أكثر عمره صلّى الله عليه وسلّم والذي لم يكن فيه مكلفا من الله تعالى بشيء. وعهد ما بعد البعثة الذي يمثل أخطر وأصعب مرحلة في حياته صلّى الله عليه وسلّم لأنها مرحلة تغيير طريق البشرية وهي مرحلة خطيرة عندما نتصورها بكل أبعادها فها هي الأوامر الربانية تأمره صلّى الله عليه وسلّم أن يترك عهد النوم وأن يشمر عن ساعد الجد، ليس لتغيير عقيدة قومه فحسب، بل لتغيير مسار البشرية بأكمله، ونقل تلك البشرية من طريق الهلاك والردى الذي كانت تتردى فيه، إلى طريق النجاة الذي يؤدي إلى سعادة الدنيا والنجاة العظمى في الأخرى. وهذه المهمة، وهذا التكليف الإلهي لم يكن يسيرا بل كانت دونه من الصعوبات والأخطار ما لا يستطيعه أحد سوى محمد صلّى الله عليه وسلّم الذي اختاره الله تعالى لهذه المهمة الشاقة ونجح فيها- كما يشهد التاريخ- أيما نجاح، ووضع البشرية على الطريق الصحيح وأوضح لها السبيل الحق، وأنار لها الطريق ولم يعد لفرد أو جماعة أو فئة عذر في تنكب طريق الحق والزيغ عن الهدى والنور.


(١) القرآن الكريم- الانفال، الآية/ ٤٢.
(٢) قارن بمقدمة الأستاذ العقاد لكتابه «عبقرية محمد» ، وانظر صفة تكريم الإنسان.
(٣) القرآن الكريم- المدثر الآية/ ١- ٥.
(٤) البخاري- فتح الباري ١/ ٣٧ حديث (رقم ٤) ، مسلم- الصحيح (شرح النووي) ٢/ ٢٠٦.
(٥) انظر صفة الإنذار، وصفة التبليغ.