للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

ساكن القلب، حاضر اللّبّ، لم يخالطه الدّهش، ولا تأخذه الحيرة، فيتقلّب تقلّب المالك الأموره، القائم على نفسه. والثّالث إذا انهزم أصحابه يلزم السّاقة، ويضرب في وجوه القوم، ويحول بينهم وبين عدوّهم، ويقوّي قلوب أصحابه، ويزجي الضّعيف، ويمدّهم بالكلام الجميل، ويشجّع نفوسهم، فمن وقع أقامه، ومن وقف حمله، ومن كبا به فرسه حماه حتّى ييأس العدوّ منهم. وهذا أحمدهم شجاعة، وعن هذا قالوا:

إنّ المقاتل من وراء الفارّين كالمستغفر من وراء الغافلين، ومن أكرم الكرم الدّفاع عن الحرم «١» .

[أصل الشجاعة وعوامل تقويتها:]

يقول الرّاغب: الشّجاعة إن اعتبرت وهي في النّفس، فصرامة القلب على الأهوال، وربط الجأش في المخاوف، وإن اعتبرت بالفعل فالإقدام على موضع الفرصة، وهي فضيلة بين التّهوّر والجبن، وهي تتولّد من الفزع والغضب إذا كانا متوسّطين؛ فإنّ الغضب قد يكون مفرطا كمن يحتدّ سريعا من أشياء صغيرة، وقد يكون مقصّرا كمن لا يغضب من الاجتراء على حرمه وشتم أبيه وأمّه، وقد يكون متوسّطا على ما يجب في وقت ما يجب، وبقدر ما يجب، وكذلك الفزع قد يكون مفرطا فيتولّد منه الجبن الهالع، ومقصّرا فيتولّد عنه الوقاحة والغمارة كمن لا يفزع من شتم آبائه وتضييع حرمه وأصدقائه، وقد يكون متوسّطا كما يجب وبقدر ما يجب ولكونهما أعني الغضب والفزع على حالين محمود ومذموم صارا يحمدان تارة ويذمّان أخرى؛ فإنّ الغضب في نحو قوله تعالى: وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ والفزع في نحو قول الشّاعر فزعت لظلمة ... إلخ ... محمودان، والتّهوّر هو الثّبات المذموم في الأمور المعطبة «٢» .

وأصلها في القلب بثبوته وقوّته وسكونه عند المهمّات والمخاوف، وهي خلق نفسيّ، ولكن لها موادّ تمدّها، فأعظم ما يمدّه وينمّيه: الإيمان، وقوّة التّوكّل على الله، وكمال الثّقة به سبحانه، وعلم العبد أنّ ما أصابه لم يكن ليخطئه، وما أخطأه لم يكن ليصيبه، ويمدّه أيضا الإكثار من ذكر الله والثّناء عليه. قال تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (الأنفال/ ٤٥) . ومن أسباب تقوية هذا الخلق الفاضل أيضا التّمرين؛ فإنّ الشّجاعة، وإن كان أصلها في القلب؛ فإنّها تحتاج إلى تدريب النّفس على الإقدام وعلى التّكلّم بما في النّفس، بإلقاء المقالات والخطب في المحافل، فمن مرّن نفسه على ذلك، لم يزل به الأمر حتّى يكون ملكة له، كذلك يدرّب نفسه على مقارعة الأعداء ولقائهم والجسارة في ميادين القتال فيقوى بذلك قلبه ونفسه، فلا يزال به الأمر حتّى لا يبالي بلقاء الأعداء ولا تزعجه المخاوف. والإخلاص لله وعدم مراعاة الخلق سبب بالغ في تقوية ذلك؛ فإنّ المخلص الّذي لا يريد إلّا وجه الله وثوابه لا يبالي بلوم اللّائمين، إذا كان في ذلك رضا لربّ العالمين. فمتى قوي إيمان العبد بالله


(١) المستطرف (١/ ٣١٠) .
(٢) الذريعة إلى مكارم الشريعة (ص ٣٢٨) .