للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

توحيد الله في العقول، ويسكن في القلوب، وتطمئن به النفوس، عند ذلك يبدأ العمل بتنفيذ أوامر الله سبحانه وتعالى واجتناب نواهيه وتأدية ما فرضه الله على العباد وفق ما جاء به وحيه، أو أمر به رسوله صلّى الله عليه وسلّم ثم يبدأ التنافس بين العباد في الأعمال الصالحة. ولذلك نجد جوهر دعوة النبي محمد صلّى الله عليه وسلّم واضحة جلية في كثير من الآيات والسور التي نزلت بمكة، ومنها على سبيل المثال قول الله تعالى: قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلا تَقْرَبُوا الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ* وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزانَ بِالْقِسْطِ لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها وَإِذا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ* وَأَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ «١» .

ويجمل شيخ الإسلام ابن تيمية دعوة النبي الكريم محمد صلّى الله عليه وسلّم بقوله: «وعامة السور المكية كالأنعام والأعراف ... هي الأصول الكلية التي اتفقت عليها شرائع المرسلين كالأمر بعبادة الله وحده لا شريك له والصدق والعدل والإخلاص، وتحريم الظلم والفواحش والشرك بالله والقول على الله بلا علم» «٢» .

شرع النبي الكريم محمد صلّى الله عليه وسلّم يبين حقيقة أن «لا إله إلّا الله» التي تعني الوحدانية المطلقة لله سبحانه وتعالى وعدم صرف أي شيء من أنواع العبادة لغير الله، «فالإنسان ليس عبدا لكائن في الأرض أو عنصر في السماء، لأن كل شيء في السماء والأرض عبد لله، يعنو لجلاله ويذل في ساحته ويخضع لحكمه، وليس هناك شركاء ولا شفعاء ولا وسطاء، ومن حق كل امرىء أن يهرع إلى ربه رأسا غير مستصحب معه خلقا آخر، كبيرا أو حقيرا. واجب على كل امرىء أن ينكر من أقاموا أنفسهم أو أقامهم غيرهم للتقرب إلى الله زلفى، وأن ينزل بهم إلى مكانهم المحدود سواء كانوا بشرا أو حجارة أو ما سوى ذلك، ويجب أن تبنى جميع الصلات الفردية والجماعية على أساس تفرد الله في ملكوته بهذه الوحدانية التامة. ونتيجة هذه العقيدة أن الحجارة التي يعبدها العرب أصبحت لا تزيد عن الحجارة التي تبنى بها البيوت أو ترصف بها الطرق» «٣» .

[أبعاد تأثير الدعوة على مجتمع مكة:]

جاء الرسول محمد صلّى الله عليه وسلّم بدعوة، قلبت حياة البشر رأسا على عقب، ولم تكن تلك الدعوة تتناول عقيدتهم وحدها، بل شملت حياتهم في جميع مظاهرها: في السياسة، وفي الاجتماع، وفي المال، وفي البيت. ولم يكن طبعيا ولا مألوفا أن ينكروا ما وجدوا عليه آباءهم وبلادهم طواعية، فكان لا بدّ لهم من التصدي لهذه الدعوة، ومقاومة صاحبها، ليرجع إلى الصف الذي خرج عنه، فيعظّم حرماتهم التي يعظّمون.

ولهذا فقد قاومت قريش الدعوة التي نقضت عقيدتها الفاسدة والمنحرفة، والرسول صلّى الله عليه وسلّم الذي كان يدعو


(١) القرآن الكريم- سورة الأنعام، الآيات/ ١٥١- ١٥٣.
(٢) ابن تيمية- الجواب الصحيح ٣/ ٣٦٠.
(٣) محمد الغزالي- فقه السيرة ص/ ٩٢- ٩٣.