للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

يقولون له: «إن لم يكن من بقائهم بدّ فليكونوا في مؤخرة الصفوف ونتولى نحن الصدارة» ففكر الرسول صلّى الله عليه وسلّم في هذا العرض الجديد، إن الصدارة إنما يظفر بها أهل الكفاية وأصحاب السبق في الإيمان والعمل، أيمكن أن تكل المؤمنين إلى إيمانهم، وتتألف هؤلاء الأقوياء بإحلالهم في مكان الصدارة حتى إذا تشرّبت أفئدتهم الإيمان كاملا تركوا هذه العنجهية من تلقاء أنفسهم.

وبينما رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في هذه المقابلة نزل الوحي بحسم القضية كلها وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ ما عَلَيْكَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَما مِنْ حِسابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ* وَكَذلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهؤُلاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنا أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ «١» .

وهكذا ألقت السماء كلمتها إن المبادىء لا يضحّى بها ولو من ناحية الشكل ومن دخل في دين الله فيلخلع عن نفسه أردية الجاهلية كلها، ولا يشعر بأنه أرجح من غيره لامتيازات مبهمة مدّعاة «٢» .

لم تستطع قريش صبرا على الدعوة إلى المساواة، فبطشت بالعبيد، وقست على المستضعفين الذين وجدوا في قول النبي صلّى الله عليه وسلّم إنصافا.

ولم يكتف النبي بأن عاب أوثانها، وأنذرها ببعث وحساب شديد، وقوّض جاهها وسلطانها، وحرمها شهواتها والاتجار بالربا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا «٣» وسوى بينها وبين العبيد المستضعفين، بل قام يطلب لهؤلاء العبيد والفقراء وأبناء السبيل حقّا في أموال الأغنياء: وَالَّذِينَ فِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ* لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ «٤» يؤخذ منهم قسرا، ويضرب عليهم ضريبة، وما كان أبغض إلى نفوس القوم من ضريبة يؤدونها مفروضة! فلما انتقل الرسول صلّى الله عليه وسلّم إلى الرفيق الأعلى كانت تلك الضريبة أول ما عصوا عليه، وارتدوا من أجله.

ذلك مجمل من القول يصوّر حالة المجتمع الذي قام فيه محمد صلّى الله عليه وسلّم داعيا إلى الله، وإلى نظام سياسي واقتصادي واجتماعي بغيض إلى القوم. وقد صوّر ذلك القرآن في أبدع إيجاز بهذه الآية: وَقالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنا «٥» .

ويجيب القرآن على قولهم هذا أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَماً آمِناً يُجْبى إِلَيْهِ ثَمَراتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقاً مِنْ لَدُنَّا وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ* وَكَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَها فَتِلْكَ مَساكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلَّا قَلِيلًا وَكُنَّا نَحْنُ الْوارِثِينَ* وَما كانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّها رَسُولًا يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِنا وَما كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرى إِلَّا وَأَهْلُها ظالِمُونَ «٦» .

كما أن النبي محمدا صلّى الله عليه وسلّم ذكّر قومه قريشا بفضل الله عليهم وطالبهم بشجاعة وإصرار بترك آلهتهم


(١) القرآن الكريم- سورة الأنعام، الآيات/ ٥٢- ٥٣.
(٢) محمد الغزالي- فقه السيرة ص/ ٩٠- ٩٣.
(٣) القرآن الكريم- سورة البقرة، الآية/ ٢٧٥.
(٤) القرآن الكريم- سورة المعارج، الآيات/ ٢٤- ٢٥، وانظر صفة «الزكاة» .
(٥) القرآن الكريم- سورة القصص، الآية/ ٥٧.
(٦) القرآن الكريم- سورة القصص، الآيات/ ٥٧- ٥٩.