للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

لقد نفس الكفار أغلب أحقادهم على الإسلام ومعتنقيه في أشخاص الموالي، لأنه لم تكن لهم منعة. فكان العذاب أقسى وأفظع.

وقد عذر الله المعذّبين فيما يتلفظون به حينما يبلغ الجهد منهم مبلغه. قال سعيد بن جبير لابن عباس: «أكان المشركون يبلغون من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من العذاب ما يعذرون به في ترك دينهم؟» قال: «نعم والله، إن كانوا ليضربون أحدهم ويجوعونه ويعطشونه، حتى ما يقدر أن يستوي جالسا من شدة الضرب الذي نزل به، حتى يعطيهم ما سألوه من الفتنة، حتى يقولوا له اللات والعزى إلهك من دون الله؟ فيقول: نعم، افتداء منهم مما يبلغون من جهده» «١» . قال ابن كثير «٢» : «وفي مثل هذا أنزل الله تعالي: مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ وَلكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ» «٣» .

وكان النبي صلّى الله عليه وسلّم يحث أصحابه دائما على الصبر على الأذى ويخبرهم بأن الله تعالى سوف ينصر دينه. فقد جاء إليه خبّاب بن الأرت يشكو إليه ما يصيبهم من شدة من المشركين وقال له: «يا رسول الله ألا تدعو الله لنا؟

فقعد وهو محمرّ وجهه فقال: «لقد كان من قبلكم ليمشط بمشاط الحديد، ما دون عظامه من لحم أو عصب، ما يصرفه ذلك عن دينه، ويوضع المنشار على مفرق رأسه فيشقّ باثنين، ما يصرفه ذلك عن دينه، وليتمّنّ الله هذا الأمر حتّى يسير الرّاكب من صنعاء إلى حضر موت ما يخاف إلّا الله» «٤» .

لقد عرضت قريش المال والجاه، الثروة والملك على الرسول الأعظم صلّى الله عليه وسلّم فأجابهم: «ما جئت بما جئتكم به أطلب أموالكم، ولا الشّرف فيكم، ولا الملك عليكم ولكنّ الله بعثني إليكم رسولا وأنزل عليّ كتابا، وأمرني أن أكون بشيرا ونذيرا فبلّغتكم رسالات ربّي ف إن تقبلوه فهو حظّكم في الدّنيا والآخرة، وإن تردّوه عليّ أصبر لأمر الله حتّى يحكم الله بيني وبينكم» «٥» .

ولما فشل المشركون في محاولاتهم في التصدي للدعوة الإسلامية، تعاهدوا على مقاطعة بني هاشم فلا يبيعونهم شيئا ولا يبتاعون منهم ولا يتزوجون منهم ولا يزوجونهم. وكتبوا بذلك صحيفة علقوها في جوف الكعبة، فاضطر أبو طالب وعشيرته إلى التحصن بالشعب ودام حصارهم زهاء ثلاث سنوات عانوا خلالها أشد المعاناة من الجوع والعوز. حتى تمكن بعض زعماء قريش بزعامة هشام بن عمرو من نقض ما جاء في الصحيفة الظالمة، وانتهت مقاطعة بني هاشم «٦» .


(١) رواه ابن إسحق، ابن هشام- السيرة (١/ ٣٩٦) .
(٢) البداية والنهاية (٣/ ٦٥) .
(٣) القرآن الكريم- سورة النحل، الآية/ ١٠٦.
(٤) البخاري- الصحيح (فتح الباري) (٧/ ٢٠٢- حديث رقم ٣٨٥٢) .
(٥) ابن هشام: السيرة ٢/ ٣١٦.
(٦) ابن هشام- السيرة ٢/ ٢١٩- ٢٢١، ٢٣٤- ٢٣٧، البيهقي- دلائل النبوة ٢/ ٣١١- ٣١٤، ابن عبد البر- الدرر ص/ ٢٧- ٣٠، البلاذري- أنساب الأشراف ١/ ٢٣٥- ٢٣٦.