للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

أراد أبو بكر الصديق- رضي الله عنه- الالتحاق بالمهاجرين إلى الحبشة في هذه الهجرة الأولى بعد أن اشتد أذى قريش عليه، ويظهر أنه سلك طريقا آخر، إذ تشير الأخبار بأنه سار في طريق اليمن حتى إذا ما بلغ برك الغماد- وهو موضع على خمس ليال من مكة لقيه ابن الدّغنة- وهو سيد قبائل القارة حلفاء بني زهرة القرشية- فقال له أين تريد يا أبا بكر؟ فقال أبو بكر: أخرجني قومي فأنا أريد أن أسيح في الأرض وأعبد ربي. فقال له ابن الدّغنة: إن مثلك لا يخرج ولا يخرج، فإنك تكسب المعدوم، وتصل الرحم، وتحمل الكلّ، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق. فأجاره وأعاده معه إلى مكة حيث أعلن لقريش أنه في جواره، فوافقت قريش على ذلك واشترطت عليه أن تكون عبادته في داره وأن لا يستعلن «١» . وبعد مدة أخذ أبو بكر يجتهد بالقراءة في فناء داره «وكان رجلا بكّاء لا يملك دمعه حين يقرأ القرآن» فيجتمع إليه ابناء ونساء المشركين يعجبون وينظرون إليه ويستمعون القرآن مما أفزع قريشا ودفعها إلى مطالبة ابن الدّغنة بأن يكفّه عن ذلك، فخيّره ابن الدّغنة بين الإسرار بعبادته، أو أن يردّ عليه جواره، فرد أبو بكر عليه جواره وقال: «إني أردّ عليك جوارك وأرضى بجوار الله» «٢» وهكذا بقى أبو بكر بمكة إلى جوار الرسول الكريم صلّى الله عليه وسلّم، مستجيرا بالله سبحانه وتعالى يحتمل أذى مشركي قريش، بعد أن كان الرسول قد أذن له بالهجرة إلى الحبشة «٣» .

[قصة الغرانيق الباطلة والهجرة الثانية إلى الحبشة:]

وبعد هجرة الحبشة الأولى بفترة قليلة، حدث أن صلّى النبي صلّى الله عليه وسلّم في المسجد الحرام، فقرأ سورة النجم وسجد في موضع السجود فسجد معه كل من كان يسمعه من المسلمين والمشركين «٤» . وشاع أن قريشا قد أسلمت، وبلغ المسلمين وهم بأرض الحبشة «أن أهل مكة أسلموا فرجع ناس منهم عثمان بن مظعون إلى مكة فلم يجدوا ما أخبروا به صحيحا فرجعوا وسار معهم جماعة إلى الحبشة، وهي الهجرة الثانية، وقد ذكرت إحدى الروايات الصحيحة أنهم «كانوا اثنين وثمانين رجلا سوى نسائهم وأبنائهم ... وقيل إن عدة نسائهم كانت ثماني عشرة امرأة» «٥» . ولا شك في أن دوافع الهجرة الثانية قد شملت اشتداد البلاء وتعاظم الفتنة والتعذيب الدائم للمستضعفين من المسلمين، والعدوان المستمر على أصحاب الرسول صلّى الله عليه وسلّم «٦» .

وقد ذهبت روايات مرسلة صحيحة السند «٧» إلى أن الشيطان كان قد ألقى على لسان الرسول صلّى الله عليه وسلّم في قراءته لسورة النجم في صلاته تلك في الحرم عبارة «تلك الغرانيق العلا وإن شفاعتهنّ لترتجى» ، وذهبت روايات مرسلة أخرى ضعيفة الأسانيد إلى أن هذه العبارة قد قالها الشيطان، وسمعها المشركون دون المسلمين، فسجد


(١) البخاري- الصحيح (فتح الباري ٤/ ٤٧٥- ٤٧٦) .
(٢) المرجع السابق ٤/ ٤٧٥- ٤٧٦.
(٣) ابن هشام- السيرة النبوية ٢/ ٣٧٢- ٣٧٤ بإسناد حسن.
(٤) صحيح البخاري (فتح الباري ٢/ ٥٥١، ٥٥٣، ٥٥٧، ٥٦٠، ٨/ ٦١٤) ، مسلم- الصحيح ١/ ٤٠٥.
(٥) البخاري- صحيح (فتح الباري ٧/ ١٨٩) .
(٦) ابن إسحاق- السير والمغازى ص/ ٢١٣.
(٧) ورد في أسانيدها سعيد بن جبير، وأبا بكر بن عبد الرحمن وأبا العاليه.