للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

وبعد أن أخفقت قريش في العثور عليهما، أعلنت عن مكافأة لمن يقتلهما أو يأسرهما، وانقطع الطلب عنهما، جاءهما الدليل، عبد الله بن أريقط بعد ثلاث من بقائهما في الغار ومعه الراحلتان، وكان معهما عامر بن فهيرة فانطلق الأربعة متوجهين إلى المدينة. ويبدو أنهما كانا يحسان برصد المشركين لهما، يقول أبو بكر الصديق- رضي الله عنه-:

«أخذ علينا بالرصد فأخرجنا ليلا» «١» . وقد تحدث أبو بكر الصديق عن بداية رحلة الهجرة النبوية فقال: «أسرينا ليلتنا كلها حتى قام قائم الظهيرة، وخلا الطريق فلا يمر فيه أحد، حتى رفعت لنا صخرة طويلة لها ظل، لم تأت عليه الشمس بعد، فنزلنا عندها، فأتيت الصخرة فسويت بيدي مكانا ينام فيه النبي صلّى الله عليه وسلّم في ظلها ثم بسطت عليه فروة، ثم قلت: «نم يا رسول الله وأنا أنفض لك ما حولك، فنام» . وهذا أول معجزة وقعت للنبي صلّى الله عليه وسلّم في طريق الهجرة «٢» .

وذكر أبو بكر خبر قدوم راع مقبل إلى الصخرة يريد منها مثل الذي أرادوا، وعرف أبو بكر منه أنه رجل من أهل مكة ورضي أن يحلب لهم من شاة له وطلب منه أبو بكر أن ينظف الضرع قبل الحلب، وكره أن يوقظ النبي صلّى الله عليه وسلّم ليشرب، فانتظره حتى استيقظ فشرب ثم أمر بالرحيل «٣» .

كان الرسول يردف أبا بكر معه على راحلته، وكان إذا سأل أحد أبا بكر عن الرسول يقول: هذا رجل يهديني السبيل فيحسبه السائل دليلا لطريقه، وإنما كان يكنّي عن سبيل الخير «٤» .

وحصلت المعجزة الثانية حين عصم الله رسوله صلّى الله عليه وسلّم وحماه من سراقة بن مالك، الذي طلبهم طمعا في جائزة قريش. فقد علم سراقة بخبرهم من رجل من بني مدلج رآهم عن بعد وهم مرتحلون مع الساحل «٥» . فاتّبعهم سراقة وهم في جلد من الأرض «٦» . وينقل البخاري حديث سراقة حيث يقول: «وقد كنت أرجو أن أردّه على قريش فآخذ المائة الناقة. قال فركبت فرسي على أثره، فبينما فرسي يشتد بي، عثر بي فسقطت عنه، قال فقلت ما هذا؟! قال ثم أخرجت قداحي فاستقسمت بها فخرج السهم الذي أكره. قال فأبيت إلا أن أتبعه. قال فركبت في أثره، فبينما فرسي يشتد بي عثر بي فسقطت عنه، قال فقلت ما هذا!، فلما بدا لي القوم ورأيتهم عثر بي فرسي، وذهبت يداه في الأرض، وسقطت عنه، ثم انتزع يديه من الأرض وتبعهما دخان كالإعصار قال: فعرفت حين رأيت أنه قد منع مني، وأنه ظاهر قال: فناديت القوم، فقلت أنا سراقة بن مالك بن جعشم انظروني أكلمكم، فو الله لا أريبكم ولا يأتيكم مني شيء تكرهونه. قال: فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لأبي بكر: «قل له وما تبغي منا؟» فقال له ذلك أبو بكر قال: قلت: تكتب لي كتابا يكون آية بيني وبينك. قال:


(١) البخاري- الصحيح (فتح الباري ٧/ ٢٥٥) .
(٢) البخاري- الصحيح (فتح الباري ٧/ ٢٥٥) ، مسلم- الصحيح ٤/ ٢٣٠٩.
(٣) مسلم- الصحيح- ٤/ ٢٣٠٩ من حديث البراء بن عازب، وانظر كذلك البخاري الأحاديث (٣٩١٧- ١٨، ٣٦٥٢) وابن عبد البر- الاستيعاب ٣/ ٢٤٠، أحمد- المسند ١/ ١٥٤- ١٥٥، الحاكم- المستدرك ٣/ ٨ وصححه عن حديث البخاري.
(٤) البخاري- الصحيح (فتح الباري ٣٩١١) ، ابن سعد- الطبقات ١/ ٣٤، أحمد- الفتح الرباني ٢٠/ ٢٩٠.
(٥) البخاري- الصحيح (فتح الباري ٧/ ٢٥٥- ٢٥٦ حديث ٣٩٠٦) ، مسلم- الصحيح ٤/ ٣٠٩ حديث ٢٠٠٩.
(٦) مسلم- الصحيح ٤/ ٢٣٠٩.