للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ (الذاريات/ ٥٠) ، فقال الطّبريّ- عند تفسير هذا الجزء من الاية الكريمة-:

«اهربوا أيّها النّاس من عقاب الله إلى رحمته بالإيمان به واتّباع أمره والعمل بطاعته» «١» ، وقال القرطبيّ في معنى هذه الاية الكريمة: قل لهم يا محمّد، أي لقومك:

فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ (الذاريات/ ٥٠) أي فرّوا من معاصيه إلى طاعته. وذكر عن ابن عبّاس- رضي الله عنهما- قوله في هذه الاية: فرّوا إلى الله بالتّوبة من ذنوبكم، وروي عن ابن عبّاس أيضا في هذه الاية: فرّوا منه إليه واعملوا بطاعته، وقال بعضهم: فرّوا من طاعة الشّيطان إلى طاعة الرّحمن، وقيل: فرّوا من الجهل إلى العلم، ومن الكفر إلى الإيمان، وقيل: فرّوا إلى ما سبق لكم من الله، ولا تعتمدوا على حركاتكم «٢» .

وقال الشّوكانيّ: فرّوا إلى الله بالتّوبة من ذنوبكم عن الكفر والمعاصي، وقيل معنى ففرّوا إلى الله: اخرجوا من مكّة.

وقال الحسين بن الفضل: احترزوا من كلّ شيء غير الله فمن فرّ إلى غيره لم يمتنع منه، وقيل: فرّوا من طاعة الشّيطان إلى طاعة الرّحمن، وقيل: فرّوا من الجهل إلى العلم «٣» . وقال أبو حيّان: فرّوا إلى الله: أمر بالدّخول في الإيمان وطاعة الله، وجعل الأمر ذلك بلفظ الفرار لينبّه على أنّ وراء النّاس عقابا وعذابا وأمرا حقّه أن يفرّ منه، فجمعت لفظة ففرّوا بين التّحذير والاستدعاء، وقال الزّمخشريّ: فرّوا إلى طاعته وثوابه من معصيته وعقابه ووحّدوه ولا تشركوا به شيئا «٤» .

ونستخلص من جملة هذه الأقوال وغيرها أنّ الفرار إلى الله اصطلاحا يعني:

أن يفزع الإنسان ويهرب من عقاب الله ومن الشّيطان والمعاصي والجهل وكلّ ما عدا الله إلى طاعة الرّحمن والدّخول في الإيمان.

قال ابن القيّم- رحمه الله-: من منازل إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (الفاتحة/ ٥) : منزلة الفرار:

قال الله تعالى: فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ وحقيقة الفرار:

الهرب من شيء إلى شيء، وهو نوعان: فرار السّعداء، وفرار الأشقياء.

ففرار السّعداء: الفرار إلى الله- عزّ وجلّ- وفرار الأشقياء الفرار منه لا إليه.

وأمّا الفرار منه إليه: ففرار أوليائه.

قال صاحب المنازل: هو الهرب ممّا لم يكن إلى من لم يزل. وهو على ثلاث درجات: فرار العامّة من الجهل إلى العلم عقدا وسعيا. ومن الكسل إلى التّشمير جدّا وعزما. ومن الضّيق إلى السّعة ثقة ورجاء.

يريد بما لم يكن «الخلق» ، وبما لم يزل «الحقّ» .

وقوله: (فرار العامّة من الجهل إلى العلم عقدا وسعيا) : فالفرار المذكور: هو الفرار من الجاهلين: من الجهل بالعلم إلى تحصيله، اعتقادا ومعرفة وبصيرة.

ومن جهل العمل إلى السّعي النّافع، والعمل الصّالح


(١) تفسير الطبري (١١/ ٤٧٣) .
(٢) تفسير القرطبي (١٧/ ٣٦- ٣٧) باختصار وتصرف يسير.
(٣) فتح القدير (٥/ ٩١) .
(٤) البحر المحيط (٨/ ١٤٢) .