للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

وهكذا فإن سبب الأزمة كان يكمن في رفضهم التعايش مع المسلمين، وتحديهم الرسول صلّى الله عليه وسلّم، وتهديدهم أمن المدينة واعتدائهم المباشر على أفراد المجتمع الإسلامي، ورفضهم الانصياع لبنود المعاهدة التي أبرمها الرسول صلّى الله عليه وسلّم معهم. وقد خشي الرسول صلّى الله عليه وسلّم خيانتهم فنبذ إليهم على سواء تنفيذا لأمر الله تعالى: وَإِمَّا تَخافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلى سَواءٍ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْخائِنِينَ «١» .

أما تفاصيل حصارهم وإجلائهم فإنها ثابتة في المصادر بروايات صحيحة «٢» ، ذلك أنهم أظهروا صريح البغضاء والعداء، فعقد النبي صلّى الله عليه وسلّم لواء أبيض لحمزة بن عبد المطلب، واستخلف على المدينة أبا لبابة بن عبد المنذر، وخرج بقواته وحاصرهم خمس عشرة ليلة إلى هلال ذي القعدة، وحين اشتد عليهم الحصار نزلوا على حكم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فيهم: على أن له أموالهم، وأن لهم النساء والذرّية. فأمر بهم فكتّفوا، ثم كلمه فيهم حليفهم عبد الله بن أبي بن سلول، وألحّ عليه قائلا: «أربعمائة حاسر، وثلاثمائة دارع منعوني من الأحمر والأسود وتحصدهم في غداة واحدة» . فقال له رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «هم لك» وأمر بهم أن يجلوا عن المدينة، وتولى أمر إجلائهم عبادة بن الصامت، فلحقوا بأذرعات، وتولى قبض أموالهم محمد بن مسلمة الأنصاري، فخمّست وقسم الباقي بين الصحابة «٣» .

وأعلن عبادة بن الصامت براءته من حلفائه اليهود لمحاربتهم المسلمين، ومظاهرة لله ورسوله فقال: «يا رسول الله إن لي موالي من يهود كثير عددهم وإني أبرأ إلى الله ورسوله من ولاية يهود، وأتولى الله ورسوله» .

ولقد أنزل الله سبحانه وتعالى في موالاة عبد الله بن أبي بن سلول لليهود، وبراءة عبادة بن الصامت منهم قرآنا، فقال تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصارى أَوْلِياءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ ... «٤» .

[غزوة السويق:]

أراد أبو سفيان القيام بعمل انتقامي ضد المسلمين، فاصطحب معه مائتي فارس، وتقدم سرّا نحو المدينة، وتخفّى عند بني النضير، وفي أوائل الحجة من السنة الثانية من الهجرة هاجم أبو سفيان بقواته ناحية العريض فقتلوا رجلين من المسلمين وأحرقوا نخلا، وفروا مسرعين عائدين إلى مكة، وقد تخففوا من حمولتهم من الطعام في سبيل التعجيل بالفرار، وضمانا لعدم لحاق المسلمين بهم وطلبا للنجاة. وقد نفر الرسول صلّى الله عليه وسلّم بالمسلمين في أثرهم حين بلغه الخبر حتى وصلوا قرقرة الكدر فلم يلحقوا بهم «٥» ، فعادوا بأزوادهم التي رموها وغالبها من السويق


(١) القرآن الكريم- سورة الأنفال، الأية ٥٨.
(٢) البخاري- الصحيح ٣/ ١١ (حديث ٤٠٢٨) ، مسلم- الصحيح ٣/ ١٣٨٧- ٨ (حديث ١٧٦٦) ، ابن هشام- السيرة ٣/ ٧٠- ٧١، الواقدي- المغازي ١/ ١٧٦، ابن سعد- الطبقات ٢/ ٩٢.
(٣) الواقدي- المغازي ١/ ١٧٦- ١٧٧، ابن سعد- الطبقات ٢/ ٢٩.
(٤) القرآن الكريم- سورة المائدة، الآيات ٥١- ٥٢، وروى الخبر ابن إسحاق بإسناد مرسل يتقوي مع المتابعات والشواهد. انظر: ابن هشام- السيرة ٣/ ٧١- ٧٢، الطبري- التفسير ٦/ ٢٧٥، السيوطي- الدر المنثور ٢/ ٢٩١.
(٥) ابن هشام- السيرة ٢/ ٤٢٢- ٤٢٣ بإسناد صحيح إلى عبد الله بن كعب بن مالك، الطبري- تاريخ ٢/ ٤٨٤، الواقدي- مغازي ١/ ١٨١، ابن سعد- الطبقات ٢/ ٣٠، وذكر الحافظ ابن كثير في البداية ٣/ ٣٧٨ بأنها غزوة قرقرة الكدر.