للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الله فيه، وأنسأ في أجلي وأنعم عليّ به، ولو توفّاني لكنت أتمنّى أن يرجعني إلى الدّنيا يوما واحدا حتّى أعمل فيه صالحا، فاحسبي أنّك قد توفّيت، ثمّ قد رددت فإيّاك ثمّ إيّاك أن تضيّعي هذا اليوم، فإنّ كلّ نفس من الأنفاس جوهرة لها قيمة «١» .

[محاسبة النفس نوعان:]

نوع قبل العمل، ونوع بعده.

فأمّا النّوع الأوّل: فهو أن يقف عند أوّل همّه وإرادته، ولا يبادر بالعمل حتّى يتبيّن له رجحانه على تركه.

قال الحسن- رحمه الله-: رحم الله عبدا وقف عند همّه، فإن كان لله مضى، وإن كان لغيره تأخّر.

النّوع الثّاني: محاسبة النّفس بعد العمل، وهو ثلاثة أنواع:

أحدها: محاسبتها على طاعة قصّرت فيها من حقّ الله تعالى؛ فلم توقعها على الوجه الّذي ينبغي.

وحقّ الله تعالى في الطّاعة ستّة أمور وهي: الإخلاص في العمل، والنّصيحة لله فيه، ومتابعة الرّسول فيه، وحصول المراقبة فيه، وشهود منّة الله عليه، وشهود تقصيره فيه بعد ذلك كلّه. فيحاسب نفسه: هل وفّى هذه المقامات حقّها، وهل أتى بها في هذه الطّاعة.

الثّاني: أن يحاسب نفسه على كلّ عمل كان تركه خيرا له من فعله.

الثّالث: أن يحاسب نفسه على أمر مباح، أو معتاد: لم فعله؟ وهل أراد به الله والدّار الآخرة؟ فيكون رابحا، أو أراد به الدّنيا وعاجلها؛ فيخسر ذلك الرّبح ويفوته الظّفر به «٢» .

وقال الغزاليّ في بيان حقيقة المحاسبة بعد العمل: اعلم أنّ العبد كما يكون له وقت في أوّل النّهار يشارط فيه نفسه على سبيل التّوصية بالحقّ فينبغي أن يكون له في آخر النّهار ساعة يطالب فيها النّفس ويحاسبها على جميع حركاتها وسكناتها، كما يفعل التّجّار في الدّنيا مع الشّركاء في آخر كلّ سنة أو شهر أو يوم، حرصا منهم على الدّنيا، وخوفا من أن يفوتهم منها ما لو فاتهم لكانت الخيرة لهم في فواته! ولو حصل ذلك لهم فلا يبقى إلّا أيّاما قلائل، فكيف لا يحاسب العاقل نفسه فيما يتعلّق به خطر الشّقاوة والسّعادة أبد الآباد؟ ما هذه المساهلة إلّا عن الغفلة والخذلان وقلّة التّوفيق- نعوذ بالله من ذلك- «٣» .

[أركان المحاسبة:]

قال ابن القيّم- رحمه الله-: قال صاحب المنازل: المحاسبة أركان ثلاثة:

أحدها: أن تقايس بين نعمتك وجنايتك يعنى أن تقايس بين ما من الله وما منك، فحينئذ يظهر لك التّفاوت، ومعلوم أنّه ليس إلّا عفوه ورحمته، أو الهلاك والعطب وبهذه المقايسة تعلم حقيقة النّفس وصفاتها وعظمة جلال الرّبوبيّة وتفرّد الرّبّ بالكمال والإفضال وأنّ كلّ نعمة منه فضل، وكلّ نقمة منه عدل. ثمّ


(١) انظر إغاثة اللهفان لابن القيم (٩٧، ٩٨، ٩٩) .
(٢) إحياء علوم الدين للغزالي (٤/ ٣٩٤- ٣٩٥) .
(٣) إحياء علوم الدين للغزالي (٤/ ٤٠٥) .