للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

حتى يأذن له رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بدخولها «١» .

استغل المنافقون بعد ذلك حادثة حصلت لأم المؤمنين عائشة- رضي الله عنها- في طريق العودة من غزوة بني المصطلق فقد نزلت من هودجها لبعض شأنها، فلما عادت افتقدت عقدا لها فرجعت تبحث عنه، وحمل الرجال الهودج ووضعوه على البعير وهم يحسبون أنها فيه، وحين عادت افتقدت الركب فمكثت مكانها تنتظر أن يعودوا إليها بعد أن يكتشفوا غيابها، وصادف أن مرّ بها أحد أفاضل أصحاب النبي صلّى الله عليه وسلّم وهو صفوان بن المعطل السلمي، فحملها على بعيره وأوصلها إلى المدينة بعد وصول الرسول صلّى الله عليه وسلّم، فاستغل المنافقون هذا الحادث ونسجوا حوله الإشاعات الباطلة وتولى ذلك عبد الله بن أبي بن سلول، وأغرى بالكلام ثلاثة من المسلمين هم مسطح بن أثاثة، وحسّان بن ثابت، وحمنة بنت جحش، فاتّهمت أم المؤمنين عائشة بالإفك. وقد أوذي النبي صلّى الله عليه وسلّم بما كان يسمع من دعايات المنافقين، وصرّح بذلك للمسلمين في المسجد حيث أعلن ثقته التامة بزوجته وبالصحابي ابن المعطل السلمي، وحين أبدى سعد بن معاذ استعداده لقتل من تسبب في ذلك إن كان من الأوس، أظهر سعد بن عبادة معارضته بسبب كون عبد الله بن أبي بن سلول من قبيلة الخزرج، ولولا تدخل النبي صلّى الله عليه وسلّم وتهدئته الصحابة من الفريقين لوقعت الفتنة بين الأوس والخزرج «٢» .

ومرضت عائشة بتأثير تلك الإشاعات الكاذبة، فاستأذنت النبي صلّى الله عليه وسلّم في الانتقال إلى بيت أبيها، وانقطع الوحي شهرا عانى الرسول صلّى الله عليه وسلّم خلاله كثيرا، حيث طعنه المنافقون في عرضه وآذوه في زوجته، ثم نزل الوحي موضحا: إِنَّ الَّذِينَ جاؤُ بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذابٌ عَظِيمٌ «٣» .

وتوالت الآيات بعد ذلك تكشف مواقف الناس من هذه الفرية، وتعلن بجلاء ووضوح براءة أم المؤمنين عائشة- رضي الله عنها- التي أكرمها الله سبحانه فمنحها الجائزة والتعويض المناسب لمحنتها وصبرها وحسن توكلها عليه سبحانه، إذ نزل في براءتها آيات من القرآن يتعبّد بها المسلمون أبد الدهر، كما علّم المؤمنين آداب التعامل مع هذه المسائل الحسّاسة، وآداب التعامل مع الرسول صلّى الله عليه وسلّم قبل ذلك «٤» .

لقد كادت حادثة الإفك أن تحقق للمنافقين ما كانوا يسعون إلى تحقيقه من هدم وحدة المسلمين وزعزعة عقيدتهم في النبي صلّى الله عليه وسلّم، وإشعال نار الفتنة بين المسلمين، ولكن الله سلّم فقد تمكّن الرسول القائد صلّى الله عليه وسلّم من قيادة الأمة بكفاءة وهو في تلك الظروف الحالكة لتجتاز الامتحان الصعب، ويصل بها بأمان إلى شاطىء السلامة.


(١) ابن هشام- السيرة ٢/ ٢٩٣، الترمذي- السنن ٥/ ٩٠.
(٢) الهيثمي- مجمع الزوائد ٩/ ٢٣٠، السيوطي- الدر ٥/ ٢٧.
(٣) القرآن الكريم- سورة النور، الآية ١١، وانظر: البخاري- الصحيح ٩/ ٨٩، مسلم- الصحيح ٨/ ١١٢- ١١٨، الطبري- التفسير ١٨/ ٨٩.
(٤) انظر: سورة النور، الآيات ١٢، ١٦، ٢٢، وانظر: البخاري- الصحيح (فتح الباري- حديث ٧٣٧٠) ، مسلم- الصحيح ٤/ ٢١٢٩ (حديث ٢٧٧٠) .