للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

والعمى عن عيب الواعظ. وتذكّر الوعد والوعيد.

وإنّما يشتدّ افتقار العبد إلى العظة- وهي التّرغيب والتّرهيب- إذا ضعفت إنابته وتذكّره، وإلّا فمتى قويت إنابته وتذكّره: لم تشتدّ حاجته إلى التّذكير والتّرغيب والتّرهيب، ولكن تكون الحاجة منه شديدة إلى معرفة الأمر والنّهي.

و «العظة» يراد بها أمران: الأمر والنّهي المقرونان بالرّغبة والرّهبة، ونفس الرّغبة والرّهبة.

فالمنيب المتذكّر: شديد الحاجة إلى الأمر والنّهي، والمعرض الغافل شديد الحاجة إلى التّرغيب والتّرهيب. والمعارض المتكبّر: شديد الحاجة إلى المجادلة.

فجاءت هذه الثّلاثة في حقّ هؤلاء الثّلاثة في قوله: ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ (النحل/ ١٢٥) أطلق الحكمة، ولم يقيّدها بوصف الحسنة. إذ كلّها حسنة، ووصف الحسن لها ذاتيّ.

وأمّا «الموعظة» فقيّدها بوصف الإحسان. إذ ليس كلّ موعظة حسنة.

وكذلك «الجدال» قد يكون بالّتي هي أحسن.

وقد يكون بغير ذلك. وهذا يحتمل أن يرجع إلى حال المجادل وغلظته، ولينه وحدّته ورفقه. فيكون مأمورا بمجادلتهم بالحال الّتي هي أحسن.

ويحتمل أن يكون صفة لما يجادل به، من الحجج والبراهين، والكلمات الّتي هي أحسن شيء وأبينه، وأدلّه على المقصود. وأوصله إلى المطلوب.

والتّحقيق: أنّ الآية تتناول النّوعين.

وأمّا العمى عن عيب الواعظ: فإنّه إذا اشتغل به حرم الانتفاع بموعظته. لأنّ النّفوس مجبولة على عدم الانتفاع بكلام من لا يعمل بعلمه ولا ينتفع به. وهذا بمنزلة من يصف له الطّبيب دواء لمرض به مثله. والطّبيب معرض عنه غير ملتفت إليه. بل الطّبيب المذكور عندهم: أحسن حالا من هذا الواعظ المخالف لما يعظ به. لأنّه قد يقوم دواء آخر عنده مقام هذا الدّواء. وقد يرى أنّ به قوّة على ترك التّداوي. وقد يقنع بعمل الطّبيعة وغير ذلك، بخلاف هذا الواعظ. فإنّ ما يعظ به طريق معيّن للنّجاة لا يقوم غيرها مقامها. ولا بدّ منها. ولأجل هذه النّفرة قال شعيب- عليه السّلام- لقومه:

وَما أُرِيدُ أَنْ أُخالِفَكُمْ إِلى ما أَنْهاكُمْ عَنْهُ (هود/ ٨٨) وقال بعض السّلف: إذا أردت أن يقبل منك الأمر والنّهي، إذا أمرت بشيء فكن أوّل الفاعلين له، المؤتمرين به. وإذا نهيت عن شيء، فكن أوّل المنتهين عنه. وقد قيل:

يا أيّها الرّجل المعلّم غيره ... هلّا لنفسك كان ذا التّعليم؟

تصف الدّواء لذي السّقام وذي الضّنى ... ومن الضّنى تمسي وأنت سقيم

لا تنه عن خلق وتأتي مثله ... عار عليك إذا فعلت عظيم

ابدأ بنفسك فانهها عن غيّها ... فإذا انتهت عنه فأنت حكيم