للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

وإضافة إلى ذلك فقد كان النبي صلّى الله عليه وسلّم يدرك أن ثقيفا إذا تحولت إلى الإسلام فإنها ستكون مادة له وقوة ومنعة فهم أهل شجاعة وفطنة وذكاء وكان يطمع في إسلامهم ويدعو لهم بالهداية.

اقترح النبي صلّى الله عليه وسلّم على أصحابه فك الحصار، فلما رأى حرصهم على القتال سمح لهم بذلك حتى اقتنعوا بعدم جدوى ذلك، فلما أعاد عليهم فكرة فك الحصار ثانية أظهروا الرضا بقراره الحكيم ونفذوه وعادوا مرة أخرى إلى الجعرانة حيث خلفوا غنائم حنين قبل أن يتوجهوا إلى الطائف «١» ، وكان النبي قد أخر قسمتها، كما أنه لم يتعجل في قسمتها بعد عودته مع الجيش سوى شيء قليل من الفضة قسمه عند وصوله «٢» ، ثم انتظر بضع عشر ليلة مؤملا قدوم هوازن وإسلامها ولكنه، حين أبطأت عليه، بادر إلى تقسيم الغنائم «٣» ، حيث قسمها صلّى الله عليه وسلّم بصورة خفيت حكمتها على بعض الصحابة آنذاك، حيث حظي بهذه الغنائم الطلقاء والأعراب تأليفا لقلوبهم لقرب عهدهم بالإسلام، فأعطى مائة من الإبل لأحد زعماء غطفان، ومثلها لأحد زعماء تميم ولستة آخرين من زعماء قريش. وقسم أيضا لاثنين وخمسين رجلا ذكرتهم المصادر من المؤلفة قلوبهم «٤» ، وقد استمالت هذه القسمة قلوب الزعماء وأتباعهم فاظهروا الرضا بها وزادهم ذلك رغبة في الإسلام، ثم حسن إسلامهم فأبلوا في الإسلام بلاء حسنا وبذلوا أموالهم وأنفسهم في سبيل الله «٥» . وذلك ما عناه أنس بن مالك- رضي الله عنه- بقوله: «إن كان الرجل ليسلم ما يريد إلّا الدنيا، فما يسلم حتى يكون الإسلام أحب إليه من الدنيا وما عليها» «٦» .

ولقد أوضح النبي صلّى الله عليه وسلّم الحكمة من وراء تقسيمه الغنائم على تلك الصورة التي كان لها أثر سلبيّ على مشاعر بعض المسلمين الذين لم تشملهم القسمة فقال صلّى الله عليه وسلّم:

«والله إنّي لأعطي الرّجل وأدع الرّجل، والّذي أدع أحبّ إليّ من الّذي أعطي، ولكن أعطي أقواما لما أرى في قلوبهم من الجزع والهلع، وأكل أقواما إلى ما جعل الله في قلوبهم من الغنى والخير» .

وقال: «إنّي لأعطي رجالا حدثاء عهد بكفر أتألّفهم» وحين بلغ النبي صلّى الله عليه وسلّم أن الأنصار قد وجدوا في أنفسهم بسبب قسمة الغنائم هذه، وأن بعضهم قال: «يعطي قريشا ويتركنا، وسيوفنا تقطر من دمائهم» ، وقالوا:

«إذا كانت الشدة فنحن ندعى، وتعطى الغنائم غيرنا» «٧» ، وقد وردت روايات صحيحة تضمنت كيف أوضح لهم


(١) البخاري- الصحيح ٥/ ١٢٨- ٩/ ١١٣.
(٢) الحاكم- المستدرك ٢/ ١٢١.
(٣) البخاري- الصحيح- فتح ٨/ ٣٢.
(٤) ابن هشام- السيرة ٢/ ٤٩٤- ٤٩٦، الزرقاني- شرح المواهب اللدنية ٣/ ٣٧، ابن حجر- فتح الباري ٨/ ٤٨.
(٥) ابن عبد البر- الاستيعاب ١/ ١٠٣، وانظر: ابن سعد- الطبقات ٧/ ٣٧، ابن حجر- الإصابة ١/ ٥٨، ابن حزم- جوامع السيرة ص/ ٢٤٨.
(٦) مسلم- الصحيح ٤/ ١٨٠٦، وانظر البخاري- الصحيح ٢/ ١٠٤، ٤/ ٧٣، ٨/ ٧٩، ابن حجر- فتح الباري ٣/ ٣٣٦.
(٧) نقل ابن هشام أنه لما أعطى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ما أعطى في قريش وقبائل العرب، ولم يعط الأنصار شيئا، قال حسان بن ثابت يعاتبه في ذلك في قصيدة أوردها (السيرة ٣/ ٤٩٧) ورد فيها قوله:
وأت الرسول وقل يا خير مؤتمن ... قدام قوم هم آووا وهم نصروا
علام تدعى سليما وهي نازحة ... للمؤمنين إذا ما عدّل البشر
سماهم الله أنصارا بنصرهم ... دين الهدي وعوان الحرب تستعر
وهي قصيدة تقع في ثلاثة عشر بيتا.