للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

وهكذا فقد كانت غزوة تبوك استجابة إيمانية لفريضة الجهاد حيث كان الروم أقرب الناس إلى ديار الإسلام ولذلك فإنهم أولى الناس بالدعوة. «١» وقد قال تعالى:

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ «٢» ، وهكذا، فبعد القضاء على الوثنية في جزيرة العرب، وإجلاء يهود من المدينة وغيرها، كان على المسلمين أن يقاتلوا أهل الكتاب من النصارى الذين كانوا يقطنون على المشارف الشمالية الغربية من جزيرة العرب، حيث كانت المنطقة التي توجه إليها الرسول في هذه الغزوة من ديار قضاعة وهي خاضعة لسلطان الإمبراطورية البيزنطية (الروم) .

ولقد دعا النبي صلّى الله عليه وسلّم الصحابة إلى الإنفاق على هذه الغزوة نظرا لكثرة المشاركين فيها، وبعد المسافة التي كان على الجيش أن يقطعها، ووعد المنفقين بعظيم الأجر من الله سبحانه وتعالى، فسارع أغلب الصحابة إلى المشاركة في توفير الأموال المطلوبة كل حسب مقدرته، وكان عثمان بن عفان أكثر المنفقين على جيش العسرة استجابة لقول النبي صلّى الله عليه وسلّم «من جهّز جيش العسرة فله الجنّة» ، وتواترت الأخبار الصحيحة بأن عثمان بن عفان قد تحمل نفقات جيش العسرة، فلقد سارع بتقديم ألف دينار في بداية الاستعدادات صبها في حجر النبي صلّى الله عليه وسلّم «٣» كما قدم أموالا أخرى تتمثل في الجمال والعدد التي يحتاج إليها في نقل الجيش والحرب «٤» . وساهم عبد الرحمن بن عوف في تحمل قسط من نفقات الجيش حين قدم نصف أمواله حينذاك وبلغت مساهمته في حدود ألفي درهم «٥» . كما قدم عمر بن الخطاب مائة أوقية «٦» ، ولا شك في أن عددا آخر من الصحابة قد ساهموا في تغطية بقية النفقات كل على قدر طاقته، والدليل على ذلك أن فقراء المسلمين قدموا ما قدروا عليه من النفقة، رغم بساطته وقلته، على استحياء منهم فقد جاء أحدهم بصاع من تمر، وجاء آخر بنصف صاع منه، مما عرضهم لسخرية ولمز المنافقين، فأنزل الله تعالى قوله الكريم: الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقاتِ وَالَّذِينَ لا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ «٧» .

ولا شك في أن المنافقين كانوا يتهمون أغنياء المسلمين بالرياء، في نفس الوقت الذي يسخرون فيه من صدقة الفقراء، وكان علبة بن زيد، وهو من البكائين، واحدا من سبعة رجال من المسلمين الذين أرادوا المشاركة في الغزوة وطلبوا من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن يجد لهم ما يحملهم عليه، فلم يجد فتولوا وأعينهم تفيض من الدمع حزنا ألّا يجدوا


(١) يقول الحافظ ابن حجر «فعزم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على قتال الروم، لأنهم أقرب الناس إليه وأولى الناس بالدعوة لقربهم إلى الإسلام وأهله» (البداية والنهاية ٢/ ٥) .
(٢) القرآن الكريم- سورة التوبة، الآية/ ١٢٣، وانظر الطبري- التفسير ١١/ ٧١.
(٣) البخاري- الصحيح ٤/ ١١ (كتاب الوصايا) ، فتح الباري ٥/ ٣٠٦، أحمد- المسند ٥/ ٥٣.
(٤) الترمذي- السنن ١٣/ ١٥٣- ١٥٤، الحاكم- المستدرك ٣/ ١٠٢.
(٥) الطبري- التفسير ١٠/ ١٩١- ١٩٦.
(٦) ابن عساكر- تاريخ دمشق ١/ ٤٠٨- ٤٠٩، وانظر الترمذي- السنن ٩/ ٢٧٧.
(٧) القرآن الكريم- سورة التوبة، آية (٧٩) ، وانظر: البخاري- الصحيح (فتح الباري، حديث ٤٦٦٨) .