للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

وما ذاك إلّا عن ثقة من أنّ الله تعالى سينصره وأنّ دينه سيظهره تحقيقا لقوله تعالى:

لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ* (التوبة/ ٣٣) وتصديقا لقول رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «زويت لي الأرض فرأيت مشارقها ومغاربها وسيبلغ ملك أمّتي ما زوي لي منها» وكفى بهذا قياما بحقّه وشاهدا على صدقه.

الخصلة الثّامنة:

ما منح من السّخاء والجود حتّى جاد بكلّ موجود وآثر بكلّ مطلوب ومحبوب ومات ودرعه مرهونة عند يهوديّ على آصع من شعير لطعام أهله.

وقد ملك جزيرة العرب وكان فيها ملوك وأقيال لهم خزائن وأموال يقتنونها ذخرا ويتباهون بها فخرا ويستمتعون بها أشرا وبطرا وقد حاز ملك جميعهم فما اقتنى دينارا ولا درهما، لا يأكل إلّا الخشن ولا يلبس إلّا الخشن.

ويعطي الجزل الخطير، ويصل الجمّ الغفير، ويتجرّع مرارة الإقلال، ويصبر على سغب الاختلال، وكان يقول: أنا أولى بالمؤمنين من أنفسهم فمن ترك دينا أو ضياعا فعليّ ومن ترك مالا فلورثته فهل مثل هذا الكرم والجود كرم وجود؟ أم هل لمثل هذا الإعراض والزّهادة إعراض وزهد؟ هيهات.

هل يدرك شأو من هذه شذور من فضائله ويسير من محاسنه التي لا يحصى لها عدد ولا يدرك لها أمد، ولم تكمل في غيره فيساويه. ولا كذّب بها ضدّ يناويه ولقد جهد كلّ منافق ومعاند وكلّ زنديق وملحد أن يزري عليه في قول أو فعل أو يظفر بهفوة في جدّ أو هزل فلم يجد إليه سبيلا وقد جهد جهده وجمع كيده.

فأيّ فضل أعظم من فضل شاهده الحسدة والأعداء فلم يجدوا فيه مغمزا لثالب أو قادح ولا مطعنا لجارح أو فاضح فهو كما قال الشّاعر:

شهد الأنام بفضله حتّى العدا ... والفضل ما شهدت به الأعداء

وبالجملة فآية أخلاقه صلوات الله عليه آية كبرى وعلم من أعلام نبوّته العظمى، وقد أجملها بعضهم بقوله وآية أخرى لا يعرفها إلّا الخاصّة، ومتى ذكرت الخاصّة فالعامّة في ذلك مثل الخاصّة.

وهي الأخلاق والأفعال الّتي لم تجتمع لبشر قطّ قبله ولا تجتمع لبشر بعده، وذلك أنّا لم نر ولم نسمع لأحد قطّ كصبره ولا كحلمه ولا كوفائه ولا كزهده ولا كجوده ولا كنجدته ولا كصدق لهجته ولا ككرم عشرته ولا كتواضعه ولا كحفظه ولا كصمته إذا صمت ولا كقوله إذا قال ولا كعجيب منشئه ولا كعفوه ولا كدوام طريقته وقلّة امتنانه.

ولم تجد شجاعا قطّ إلّا وقد جال جولة وفرّ فرّة وانحاز مرّة ولا يستطيع منافق ولا زنديق ولا دهريّ أن يحدّث أنّه صلّى الله عليه وسلّم جال جولة قطّ ولا فرّ فرّة قطّ ولا حام عن غزوة ولا هاب حربا من مكاثرة.

وذلك من أعجب ما آتاه الله نبيّا قطّ مع سائر ما جاء به من الآيات ومن ضروب البرهانات إذ أعداؤه جمّ