للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الله لنقتلنّه؛ فإنّك منافق تجادل عن المنافقين. فثار الحيّان: الأوس والخزرج «١» حتّى همّوا أن يقتتلوا- ورسول الله صلّى الله عليه وسلّم على المنبر- فلم يزل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يخفّضهم حتّى سكتوا وسكت. قالت: وبكيت يومي ذلك. لا يرقأ لي دمع، ولا أكتحل بنوم. ثمّ بكيت ليلتي المقبلة لا يرقأ لي دمع ولا أكتحل بنوم، وأبواي يظنّان أنّ البكاء فالق كبدي. فبينما هما جالسان عندي وأنا أبكي- استأذنت عليّ امرأة من الأنصار فأذنت لها، فجلست تبكي. قالت: فبينا نحن على ذلك دخل علينا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. فسلّم ثمّ جلس. قالت: ولم يجلس عندي منذ قيل لي ما قيل. وقد لبث شهرا لا يوحى إليه في شأني بشيء. قالت: فتشهّد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حين جلس، ثمّ قال: «أمّا بعد. يا عائشة، فإنّه قد بلغني عنك كذا وكذا. فإن كنت بريئة فسيبرّئك الله، وإن كنت ألممت بذنب فاستغفري الله وتوبي إليه؛ فإنّ العبد إذا اعترف بذنب ثمّ تاب تاب الله عليه» قالت:

فلمّا قضى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مقالته، قلص دمعي حتّى ما أحسّ منه قطرة. فقلت لأبي: أجب عنّي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فيما قال. فقال: والله ما أدري ما أقول لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم. فقلت لأمّي: أجيبي عنّي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم.

فقالت: والله ما أدري ما أقول لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم.

فقلت- وأنا جارية حديثة السّنّ لا أقرأ كثيرا من القرآن- إنّي والله لقد عرفت أنّكم قد سمعتم بهذا حتّى استقرّ في نفوسكم وصدّقتم به. فإن قلت لكم إنّي بريئة- والله يعلم أنّي بريئة- لا تصدّقوني بذلك، ولئن اعترفت لكم بأمر- والله يعلم أنّي بريئة- لتصدّقونني. وإنّي والله ما أجد لي ولكم مثلا إلّا كما قال أبو يوسف: فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعانُ عَلى ما تَصِفُونَ (يوسف/ ١٨) . قالت: ثمّ تحوّلت فاضطجعت على فراشي. قالت: وأنا والله حينئذ أعلم أنّي بريئة، وأنّ الله مبرّئي ببراءتي. ولكن والله ما كنت أظنّ أن ينزل في شأني وحي يتلى، ولشأني كان أحقر في نفسي من أن يتكلّم الله- عزّ وجلّ- فيّ بأمر يتلى، ولكنّي كنت أرجو أن يرى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في النّوم رؤيا يبرّئني الله بها. قالت: فو الله ما رام «٢» رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مجلسه، ولا خرج من أهل البيت أحد حتّى أنزل الله- عزّ وجلّ- على نبيّه صلّى الله عليه وسلّم. فأخذه ما كان يأخذه من البرحاء «٣» عند الوحي حتّى إنّه ليتحدّر منه مثل الجمان «٤» من العرق في اليوم الشّات من ثقل القول الّذي أنزل عليه. قالت: فلمّا سرّي عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وهو يضحك- فكان أوّل كلمة تكلّم بها أن قال:

«أبشري يا عائشة! أمّا الله فقد برّأك» فقالت لي أمّي:

قومي إليه. فقلت: والله لا أقوم إليه، ولا أحمد إلّا الله؛ هو الّذي أنزل براءتي. قالت: فأنزل الله- عزّ وجلّ-:

إِنَّ الَّذِينَ جاؤُ بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ (النور/ ١١) عشر آيات. فأنزل الله- عزّ وجلّ- هؤلاء الآيات


(١) فثار الحيان الأوس والخزرج: أي تناهضوا للنزاع والعصبية.
(٢) ما رام: أي ما فارق.
(٣) البرحاء: هي الشدة.
(٤) الجمان: الدر. شبهت قطرات عرقه صلّى الله عليه وسلّم بحبات اللؤلؤ في الصفاء والحسن.