للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

قد حمل القرآن، فلمّا أن امتلأت الدّار من قرّاء النّاس، دعا بمصحف إمام عظيم «١» ، فوضعه بين يديه، فجعل يصكّه بيده «٢» ويقول: أيّها المصحف! حدّث النّاس! فناداه النّاس فقالوا: يا أمير المؤمنين، ما تسأل عنه؟ إنّما هو مداد في ورق، ونحن نتكلّم بما روينا منه! فماذا تريد؟ قال: أصحابكم هؤلاء الّذين خرجوا، بيني وبينكم كتاب الله، يقول الله تعالى في كتابه في امرأة ورجل وَإِنْ خِفْتُمْ شِقاقَ بَيْنِهِما فَابْعَثُوا حَكَماً مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِنْ أَهْلِها إِنْ يُرِيدا إِصْلاحاً يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُما (النساء/ ٣٥) فأمّة محمّد صلى الله عليه وسلّم أعظم دما وحرمة من امرأة ورجل، ونقموا عليّ أن كاتبت معاوية: كتب عليّ بن أبي طالب «٣» ، وقد جاءنا سهيل ابن عمرو ونحن مع رسول الله صلى الله عليه وسلّم في الحديبية حين صالح قومه قريشا، فكتب رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «بسم الله الرّحمن الرّحيم» فقال سهيل: لا تكتب بسم الله الرّحمن الرّحيم، فقال:

«كيف نكتب؟» فقال: اكتب باسمك اللهمّ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «فاكتب: محمّد رسول الله» ، فقال: لو أعلم أنّك رسول الله لم أخالفك، فكتب: هذا ما صالح محمّد بن عبد الله قريشا، يقول الله تعالى: لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ (الأحزاب/ ٢١) ، فبعث إليهم عليّ عبد الله ابن عبّاس، فخرجت معه «٤» ، حتّى إذا توسّطنا عسكرهم، قام ابن الكوّاء يخطب النّاس، فقال: يا حملة القرآن، إنّ هذا عبد الله بن عبّاس فمن لم يكن يعرفه، فأنا أعرّفه من كتاب الله ما يعرفه به، هذا ممّن نزل فيه وفي قومه قَوْمٌ خَصِمُونَ (الزخرف/ ٥٨) ، فردّوه إلى صاحبه «٥» ، ولا تواضعوه كتاب الله «٦» ، فقال خطباؤهم، والله لنواضعنّه كتاب الله، فإن جاء بحقّ نعرفه لنتّبعنّه، وإن جاء بباطل لنبكّتنّه «٧» بباطله، فواضعوا عبد الله الكتاب ثلاثة أيّام، فرجع منهم أربعة آلاف كلّهم تائب، فيهم ابن الكوّاء، حتّى أدخلهم على عليّ الكوفة، فبعث عليّ إلى بقيّتهم فقال: قد كان من أمرنا وأمر النّاس ما قد رأيتم، فقفوا حيث شئتم حتّى تجتمع أمّة محمّد صلى الله عليه وسلّم، بيننا وبينكم ألّا تسفكوا دما حراما، أو تقطعوا سبيلا، أو تظلموا ذمّة «٨» ، فإنّكم إن فعلتم فقد نبذنا إليكم الحرب على سواء «٩» ، إنّ الله لا يحبّ الخائنين، فقالت له عائشة: يا ابن شدّاد، فقد قتلهم، فقال: والله ما بعث إليهم حتّى قطعوا السّبيل، وسفكوا الدّم، واستحلّوا أهل الذّمّة، فقالت: آلله؟

قال: آلله الّذي لا إله إلّا هو لقد كان، قالت: فما شيء


(١) المراد مصحف كبير الحجم من تلك المصاحف التي أرسلها عثمان رضي الله عنه- إلى الأمصار.
(٢) صك الشيء بيده: أي ضربه بها، والمراد وضع يده عليه.
(٣) في الكلام التفات من التكلم الى الغيبة والمراد كتبت.
(٤) الخارج مع ابن عباس هو راوي الحديث وهو عبد الله بن شداد.
(٥) يريد عليّا كرم الله وجهه.
(٦) تواضعوه من المواضعة وأصلها المراهنة، والمراد تحكيم كتاب الله في المجادلة فكأنهم وضعوه حكما بينهم.
(٧) لنبكّتنّه: أي لنقرّعنّه ونوبخنّه، من قولهم: بكّته أي قرّعه ووبّخه.
(٨) أي أحدا منه أهل الذمة وهم المعاهدون.
(٩) نبذنا إليكم الحرب على سواء، أي أظهرنا لكم نبذ العهد وأخبرنا بها (أي الحرب) إخبارا مكشوفا بيّنا.