للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

إلّا ذكّرنا منه علما) «١» .

وعرّفهم حالهم بعد القدوم على ربّهم أتمّ تعريف، فكشف الأمر وأوضحه، ولم يدع بابا من العلم النّافع المقرّب لهم إلى ربّه إلّا فتحه، ولا مشكلا إلّا بيّنه وشرحه، حتّى هدى الله به القلوب من ضلالها، وشفاها من أسقامها، وأغاثها من جهلها، فأيّ بشر أحقّ بأن يحمد منه صلّى الله عليه وسلّم، وجزاه عن أمّته أفضل الجزاء.

وممّا يحمد عليه صلّى الله عليه وسلّم ما جبله الله عليه من مكارم الأخلاق، وكرائم الشّيم، فإنّ من نظر في أخلاقه وشيمه صلّى الله عليه وسلّم، علم أنّها خير أخلاق، فإنّه صلّى الله عليه وسلّم كان أعلم الخلق، وأعظمهم أمانة، وأصدقهم حديثا، وأحلمهم وأجودهم وأسخاهم، وأشدّهم احتمالا، وأعظمهم عفوا ومغفرة، وكان لا يزيده شدّة الجهل عليه إلّا حلما، كما روى البخاري في «صحيحه» عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما أنّه قال في صفة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في التّوراة: «محمّد عبدي ورسولي سمّيته المتوكّل ليس بفظّ ولا غليظ ولا صخّاب بالأسواق، ولا يجزي بالسّيّئة السّيّئة، ولكن يعفو ويصفح، ولن أقبضه حتّى أقيم به الملّة العوجاء بأن يقولوا: لا إله إلّا الله، وأفتح به أعينا عميا، وآذانا صمّا وقلوبا غلفا» «٢» .

وهو أرحم الخلق وأرأفهم بهم، وأعظم الخلق نفعا في دينهم ودنياهم، وأفصح خلق الله، وأحسنهم تعبيرا عن المعاني الكثيرة بالألفاظ الوجيزة الدالّة على المراد، وأصبرهم في مواطن الصّبر، وأصدقهم في موطن اللّقاء، وأوفاهم بالعهد والذّمّة، وأعظمهم مكافأة على الجميل بأضعافه، وأشدّهم تواضعا، وأعظمهم إيثارا على نفسه، وأشدّ الخلق ذبّا عن أصحابه وحماية لهم، ودفاعا عنهم، وأقوم الخلق بما يأمر به، وأتركهم لما ينهى عنه، وأوصل الخلق لرحمه، فهو أحقّ بقول القائل:

برد على الأدنى ومرحمة ... وعلى الأعادي مازن جلد

قال علي رضي الله عنه: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أجود النّاس صدرا، وأصدقهم لهجة، وألينهم عريكة، وأكرمهم عشرة، من رآه بديهة هابه، ومن خالطه معرفة أحبّه، يقول ناعته: لم أر قبله ولا بعده مثله صلّى الله عليه وسلّم «٣» .

فقوله: كان أجود النّاس صدرا، أراد به: برّ الصّدر، وكثرة خيره، وأنّ الخير يتفجّر منه تفجيرا، وأنّه منطو على كلّ خلق جميل، وكلّ خير، كما قال بعض أهل العلم ليس في الدّنيا كلّها محلّ كان أكثر خيرا من صدر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قد جمع الخير بحذافيره، وأودع في صدره صلّى الله عليه وسلّم.

وقوله: أصدق النّاس لهجة، وهذا مما أقرّ به أعداؤه المحاربون له، ولم يجرّب عليه أحد من أعدائه كذبة واحدة قطّ، دع شهادة أوليائه كلّهم له به فقد حاربه أهل الأرض بأنواع المحاربات مشركوهم وأهل الكتاب منهم،


(١) أخرجه أحمد في «المسند» (٥/ ١٦٢) ، ورجاله ثقات.
(٢) أخرجه البخاري (الفتح ٨/ ٤٨٣٨) .
(٣) أخرجه الترمذي في «الشمائل» رقم (٦) وفي «السنن» (٣٦٤٢) وقال الارنؤوطيان، وفي سنده ضعف وانقطاع» .